بايدن والميليشيات العراقية: محاولة فهم طبيعة النزال الأول
في 25 فبراير الماضي استهدفت غارات أمريكية منشــآت تابعــة لكتائب «حزب الله العراقي»، و»كتائب ســيد الشهداء» على الحدود العراقية الســورية. المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكيــة قال، إن الضربات دمرت منشــآت تقــع عند نقطة حدودية تستخدمها هذه الميليشيات المسلحة المرتبطة بإيران. كما دمرت ثلاث شــاحنات ذخيرة جنوب مدينة البوكمال في ريف دير الزور الشــرقي، لحظة دخولها إلى سوريا عبر معبر غير شرعي.
الحادث هو أول عمل عســكري تقوم بــه الإدارة الأمريكية الجديــدة بقيادة جــو بايــدن، وقــال البيان الصــادر عن البنتاغون، إنها تمت بتوجيه منه، مع اتخاذ بعض الإجراءات الدبلوماســية، بضمنها استشــارة الشــركاء فــي التحالف الدولي، وبذلك تثبت الإدارة الأمريكية الجديدة، أنها لم تتأخر في الرد على الأذرع الإيرانية، التي اســتهدفت قاعدة أمريكية في محافظة أربيل شمال العراق في 15 فبراير المنصرم، وقبلها المنطقــة الخضراء، حيث مقر الســفارة الأمريكيــة. أما وزير الدفاع الامريكي فقد صرح قائلا «نحن واثقون من الهدف الذي ســعينا وراءه، ونعرف جيدا ما ضربناه. إننا على ثقة من أن الهدف كان يســتخدم من قبل الميليشــيات نفسها، التي نفذت الضربات ضد الأمريكيين في العراق.»
يبــدو واضحــا أن إيران تحــاول، ومنذ وصــول الإدارة الأمريكية الجديدة إلى البيت الأبيض، توسيع رقعة مناوراتها لوضعها ورقة ضغط للاستفادة منها سياسيا، في حال إجراء مفاوضات مــع الولايات المتحدة بشــأن البرنامــج النووي. ويتضح أن واشــنطن تعلم جيدا هذه المحاولــة، لذلك أرادت تحقيق عدة أهداف من الضربة الجوية، أولها توجيه رســالة إلى طهــران مفادهــا، أن الولايات المتحدة تفهــم الغرض من إطلاق الصواريخ على القواعد الأمريكية والسفارة في بغداد. ثانيا حماية أمن الأصول الأمريكية العســكرية والدبلوماسية فــي العراق، مــن خلال اســتهداف أصــول ومنشــآت هذه الميليشــيات، التي سبق أن اســتهدفت القواعد الأمريكية في العراق أكثر من مرة. ثالثا هي ترســل رسالة لا لبس فيها إلى طهران، بأن لا تقع في فهم خاطئ للتصريحات الأمريكية، التي تؤكد على الرغبة بالعودة إلى الاتفاق النووي، على أنها سوف تتسامح مع أذرعها، وتغض الطرف عن استهداف قواعدها في العراق. وكي تُبقي واشــنطن الباب مفتوحا أمام إيران، فإنها اختارت أن لا تكون الضربة الجوية في الأراضي الإيرانية، ولا في الأراضي العراقية، كي لا تصبح خطوة تصعيدية خطيرة. وهنا يمكن القــول إن الرئيس الأمريكي، حــاول قدر الإمكان عــدم الدفع بالأمور إلى حافة الهاوية، وتجنب الأســوأ، وهذا هو الذي دفعه كي تكون الضربة في الأراضي الســورية لحظة دخول شاحنات الذخيرة إليها.
قد يكون الاســتهداف الأمريكي الأخيــر ردا من جو بايدن شخصيا، لكن في الوقت نفســه كانت هنالك دعوات صريحة من عــدد كبير من أعضــاء الكونغرس، والساســة في البيت الأبيض، بضــرورة توجيه عقاب إلى الميليشــيات العراقية، بعد اســتهداف القاعدة الأمريكية في أربيل، كي يبقى ســيف الحزم مســلطا عليها. لكنه اختار هدفا بعيدا عن الســاحتين العراقية والإيرانية، من ضمن مجموعة خيارات قدّمها الفريق العسكري الأمريكي من المستشــارين، كي يعكس توجها آخر مغايرا للتوجــه الأمريكي في عهد ترامب، فقــد اختار الأخير هدفــا اســتراتيجيا كبيرا جدا هو قاســم ســليماني من بين مجموعة خيــارات كانت أقــل خطورة، من جهــة أخرى أراد الرئيــس الأمريكي أن لا يُغضب الإيرانيين كثيرا، ويُدمّر فرص المحادثات المستقبلية معهم بشــأن البرنامج النووي، إضافة إلى أن تكــون الإصابات والوفيات في الحــد الأدنى، أملا في إبعاد شــبح الخوض في دوامة من العنف والرد والرد المضاد في الداخل العراقي، بعد أن تجد الميليشــيات العراقية وإيران صعوبة كبيــرة في بلع الــرد الأمريكي. وعلــى الرغم من كل هذه الاعتبارات، فإن الوقائع تشــير إلــى أن هذه الضربة لن تحقق الأمن للأصول الأمريكية في العراق. فهذه الميليشــيات لها تأثيــر خطير، وهذا هو الســبب وراء اختيــار بايدن أقل الخيارات خطرا، ما يجعل تصعيد التوتر في المستقبل القريب، ليس مســتبعدا أبداً في حال استمرت الهجمات من قبل الأذرع الإيرانية، خاصة أنها نفت مسؤوليتها عن القصف الصاروخي الذي استهدف أربيل، وبالتالي ســوف تظهر نفسها على أنها بريئة وأن هنالك عدوان أمريكي حصل عليها ويستوجب الرد من قبلها.
مــا يظهر للعلن أنه على الرغم من أن سياســة بايدن تجاه إيران تتلمس ردود أفعال محســوبة، ردا على الاســتهدافات الأخيــرة للمصالح الأمريكية في العــراق، من قبل المجموعات التابعة لها، كما شــهدنا في الضربة الأخيرة، وكذلك بالتمسك بإجراء محادثات معها في الشأن النووي، فإنه يبدو واضحا أن توجــه طهــران تصعيدي تجــاه واشــنطن وحلفائها في المنطقة. هذا الســلوك الإيراني مرده إلــى أن صانع القرار في طهران يــرى، أنه على الرغــم من أن بايــدن كانت من ضمن شــعاراته الانتخابيــة العودة إلــى الاتفاق النــووي، ورفع العقوبــات الاقتصادية، لكنــه حال دخولــه البيت الأبيض، اعتمد سياســة أكثر صرامة مع طهران، وأبقى على العقوبات الأمريكية بجميع أشكالها حتى تلك التي لا تحتاج إلى إجراءات طويلة. في الحقيقة مرد هذا الموقف الأمريكي هو الجنوح نحو
سياســة مراكمة الضغوط على الحكومة الإيرانية، الذي ترى فيــه الإدارة الامريكية أنــه يخدمها في حملــة التفاوض مع الإيرانيين لاحقا. كما أن هذا الأسلوب يشي بأن البيت الابيض لــن يركز فقط على الملــف النووي في المفاوضــات المقبلة، بل يريد التفاوض على دور إيران المزعزع للاســتقرار في المنطقة والإقليم، وعلى ملف الصواريخ البالســتية أيضا، بالنظر إلى انتشار المصالح الأمريكية في الإقليم، ووجود مصالح لحلفاء واشــنطن العرب والإســرائيليين، وأيضا وجود مخاوف لكل هؤلاء من الــدور الإيراني في المنطقة، لذلك يمكن قراءة القرار الحازم بالــرد على أذرع طهران من منطلــق مراكمة الضغوط عليها.
مــا يثير الانتباه حقــا في هذه المنازلة الأولــى بين الإدارة الأمريكية الجديدة والميليشيات العراقية المدعومة من طهران، أن وزير الدفاع الأمريكي قال صراحة «لقد ســمحنا للعراقيين وشــجعناهم على التحقيق وجمع المعلومات الاســتخبارية وكان ذلــك مفيدا لنا فــي تحديد الهدف». كما شــكر الحكومة العراقية علــى تعاونها في تقديم المعلومات الاســتخباراتية، لكــن وزارة الدفاع العراقية نفت التعاون الاســتخباراتي مع الأمريكيين فــي الضربة الأخيرة. يقينا ســتعزز هذه المعلومة الصراع بين ســلطة رئيس الوزراء والميليشــيات مرة أخرى، فقد اتهمته كتائب حزب الله بتقديم معلومات استخبارية إلى الامريكيين ســاعدت في قتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في يناير من العام الماضي 2020.
إن الضربات الصاروخية على الأصول الأمريكية في العراق من قبــل الأذرع الإيرانية، وردة الفعل الأمريكية بضرب مواقع تابعة لهذه الميليشــيات، يؤكد بما لا يقبل الشك أن العودة إلى الاتفاق النووي ليست بالسهولة التي تريدها طهران، وكذلك ليس بالسهولة التي توقعتها أوســاط سياسية كثيرة عندما رفع بايدن شــعاره بالعودة إلى الاتفاق. واضح جدا الآن أن كل طرف يحــاول أن يدمي الآخر ظنا منه أنه قادر على مراكمة الضغوط التي تؤدي إلى التنازلات على طاولة المفاوضات.
البيت الأبيض لن يركز فقط على الملف النووي في المفاوضات المقبلة، بل يريد التفاوض على دور إيران المزعزع للاستقرار في المنطقة