Al-Quds Al-Arabi

الدولة القوية وبناء مؤسسات الحكم الرشيد... عن تحديات العقد العربي القادم

- ٭ كاتب من مصر ■ ٭ كاتب صحافي جزائري

■ خلال الســنوات الماضية التي أعقبت انتفاضات 2011 الديمقراطي­ــة، دفعت تقلبــات أحوال بلاد العرب بقضايا الحكم الرشــيد إلى الواجهــة. بعيدا عن ليبيا وســوريا واليمن التي أنهار بها السلم الأهلي وتهاوت بها قدرات مؤسســات الدولة والمجتمع المدني على حد السواء، ســعت الحكومات العربية، وبغض النظر عما إذا كانــت تلك الحكومات قد قبلت بشــيء من التحول الديمقراطي كما في تونس بالأمس وفي السودان اليوم أو تراجعــت عنه كمــا في مصر بالأمــس وفي الجزائر اليوم، إلــى التعامل الجــاد مع الأزمــات الاقتصادية والاجتماعي­ــة المزمنــة مثل معــدلات الفقــر والبطالة المرتفعة وانكماش الطبقات الوســطى وضعف القطاع الخــاص والفرص المحدودة للترقــي المجتمعي للفقراء ومحدودي الدخل. وفي هذا الســياق، طفت على سطح بلاد العرب الإشــكالي­ات البنيوية والمؤسسية العديدة التي تحد باســتمرار من الحكم الرشيد وتطيل من عمر الأزمات المزمنة.

في أعقاب انتفاضــات 2011 الديمقراطي­ة، تصاعدت آمال قطاعات شعبية واســعة بشأن انفتاح الحكومات العربيــة على قيم المشــاركة والمحاســب­ة والشــفافي­ة ومحاربة الفســاد والتنمية المســتدام­ة. غير أن العقد المنصرم بين 2011 و2021حمل الكثير من الانتكاســ­ات للآمال الشــعبية تلك وعلى الرغم من تحســن معدلات النمــو الاقتصادي والاجتماعي فــي بعض بلاد العرب غير النفطية )مصر نموذجــا( لم تتبلور نماذج ناجحة للحكم الرشــيد. وزاد من حدة الأمر حقيقة أن الشباب يمثلون أسرع المجموعات الســكانية نموا )أكثر من 60 بالمائة من العرب هم تحت ســن الـ25(. وتكفي المتابعة الســريعة لمشــاركات الشباب على شــبكات التواصل الاجتماعي )من فيســبوك وتويتر إلى التطبيق الجديد

‪club house‬ ) للتثبــت مــن وضعيــة الإحباط التي يعانون منها بســبب محدودية فــرص العمل والترقي المجتمعي وغياب الابتكار وشكوكهم الواسعة في رغبة حكوماتهم في تغيير طرق وأساليب إدارة الشأن العام. بينما ينظر الشباب في العراق ولبنان لأحوال بلديهما ولا يطالعون ســوى الهيمنة القاتلة للتراكيب الطائفية التي أفسدت الاقتصاد والمال والسياسة، يتابع الشباب في مصر والجزائر والمغرب تواصل تنصل الحكومات من الانفتاح على القيم العصرية للحكم الرشــيد ويعزفون من ثم عن المشــاركة في الشــأن العام ويعوضون ذلك إما بالحضــور المكثف في العالم الافتراضي لشــبكات التواصل أو بالبحث عن ســبل للهجرة. في المقابل، لم ترتــب جودة حياة المواطنين في العــدد الأكبر من دول الخليج والأوضاع الاقتصادية والاجتماعي­ة المســتقرة انفتاح الحكومات على قدر من المشــاركة الشــعبية في إدارة شــؤون البلاد أو قبول الحكام لشــيء من حرية التعبير عــن الرأي أو إقــرار بعض الحقــوق للعمالة الوافــدة يتماشــى مــع عصريــة المؤسســات العامة ودينامية القطاع الخاص. لذا، يتواصل على شــبكات التواصل تنديد قطاعات واســعة من الشباب الخليجي بغياب حرية التعبير وباســتمرا­ر سلب حرية مدافعات ومدافعــن عن حقوق الإنســان وبالتمييز الممنهج ضد الوافدين. هذا الشــباب المحبط والعازف عن المشاركة في الشــأن العــام والناقد للأوضــاع القائمة هو الذي ســيواصل دخول سوق العمل في الســنوات القادمة، ومن المؤكد أن اســتمرار عجز عديد الحكومات العربية عن خلق فرص مناســبة للعمــل والترقي والتنصل من الالتزام بالمشاركة والمحاســب­ة والشفافية وقيم الحكم الرشــيد ســيدفعهم إلى الاحتجــاج والانتفاض المرة تلو الأخرى على نحو ســيذهب مســتقبلا بالاستقرار السياسي الهش.

هنا يقع التحدي الأساســي للحكومات العربية في العقد الذي ســيمتد مــن 2021 إلــى 2031، كيف يمكن عصرنة وتحســن طرق وأســاليب إدارة الشأن العام وصولا إلى الحكم الرشيد.

لا أنكر أن شــيئا من عمليات العصرنة والتحســن هاتين يحدث في بعض بلاد العــرب. في الجزائر، على سبيل المثال، حضرت منذ بدأت الانتفاضة الشعبية في 2019 مساعي تحديث المؤسســات العامة بدفعها نحو المحاسبة والشفافية والاستجابة لمطالب الناس. إلا أن ذات التوجه غاب بالمطلق فيما خص أدوار المؤسســات العسكرية والشــرطية التي لم تزل كالصندوق الأسود الذي لا يعلم عنــه عموم الجزائريين الكثير. وفي مصر، كمثال ثاني، أظهرت طرق التعامل مع جائحة كوفيد-19 وتداعياتها المختلفة اعتماد الحكومة المتزايد على رئاسة مجلس الوزراء والــوزارا­ت المدنية وأهل الاختصاص مــن التكنوقراط والبيروقرا­ط في المؤسســات العامة. نتج عن ذلــك، من جهــة، ارتفاع ملحوظ فــي فاعلية القطاع المدني المهمش تقليديا داخل بنية الدولة المصرية وفي الثقة الشعبية بالمدنيين من رئيس مجلس الوزراء إلى وزيرات الصحة والتخطيط والتضامن الاجتماعي والاستثمار. ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من الهيئات العســكرية والأمنيــة ابتعــدت عن الإدارة المباشــرة للأوضاع المجتمعيــ­ة إلا أن الطريق باتجاه تحويل تلك الهيئات إلى مكونات مشــاركة في حكم مصر وليســت مهيمنة عليــه مازال طويــا. وبينما اتجهــت الأردن والمغرب خلال السنوات الماضية نحو توسيع مساحات فعل المجتمع المدنــي والفاعلين غيــر الحكوميين وكبح جماح التدخلات الاســتخبا­راتية والأمنية بعملهم، لم يترجم هــذا التوجه إلى دمج حقيقــي للمجتمع المدني

في عمليات صناعة القرار العام وتوزيــع المــوارد والمداخيــ­ل الوطنية على المواطنين.

حدثت وتحــدث، إذا، بعض التغيــرات في طرق وأســاليب الحكم في بــاد العــرب. إلا أن الأمر في المجمل لم يصل بعد إلى التأســيس لحكومات رشــيدة وفعالة تشجع المشاركة الشعبية وتعتمد قيم المحاســبة والشفافية. في أعقاب انتفاضــات 2011 الديمقراطي­ة وقبل الموجة الثانية بين 2019 و2020، تماســكت بعض المؤسسات العامة وبنى القطــاع الخاص في بعــض بلاد العرب، وســاعد ذلك التماســك على احتواء جزئي لأزمــات الفقر والبطالة والعنــف الأهلي. غير أن التماســك المؤسســي، وكما أظهــرت الموجة الثانية من الانتفاضــ­ات الديمقراطي­ة، لم يترجم بعض إلى رضاء شــعبي عن الحكومات وثقة فــي قدرتها على الدفــع بقاطرة المجتمع نحــو التنمية المستدامة والعدل والحرية.

ليس التحول الديمقراطي فــي المقام الأول هو الذي يمثل تحــدي الســنوات القادمة في بــاد العرب، بل التحدي الأكبر هو التأســيس للحكم الرشيد ومواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعي­ة المزمنة عبر مؤسسات عامة قوية وقطاع خاص مبتكر وحيوي ويدعم احترام القانون ويحارب الفســاد وتمكين الأغلبية الشابة من المواطنين في إطار من التزام قيم المشــاركة والمحاسبة والشــفافي­ة. وتلك هي خطوات البدايــة الواقعية نحو عصرنة الدولة العربية ودفعهــا نحو الديمقراطي­ة في علاقتها بالمجتمع والمواطنين والقطاع الخاص.

بعد عام مــن التوقف الاضطراري بســبب جائحــة كورونا، عــادت تظاهــرات الغضب إلى شوارع المدن الجزائرية كأنها لم تتوقف أبدا!

فــي عودة التظاهرات بتلك القوة والإصرار، كما كان حالها الجمعة الماضية، دروس عديدة وبســيطة يتحتم على المســؤولي­ن الجزائريــ­ن الوقوف عندها والبناء عليها إذا أرادوا حماية المركب من الغرق.

الدرس الأول، والأبرز، أن الجزائريين طفح بهم الكيل فلا شــيء يســتطيع إعادتهم إلى بيوتهم. الدرس الثاني، ولا يقل أهمية، أن حِيَل نظام الحكم، للَّعب مع الغضب والتلاعب به، بلغت مداها وأصبحت غير مجدية.

يكفــي تأمّل الإصرار الذي تحدّى بــه مئات آلاف المتظاهريـ­ـن الآلة الأمنية والجــو الماطر والبرد والخوف من تفشــي وباء كورونا، مــن أجل التعبير عن غضبهم، للتأكد من أن الجزائريين أكثر إصــرارا اليوم على انتزاع حقوقهم مما كانوا يوم 22 شباط )فبراير( 2019.

يجب أيضا الانتبــاه إلى أن الحراك عاد أكثر تشــددًا وعنادًا. الشــعارات المرفوعة في تظاهرات الجمعة تؤشــر إلى تصعيد خطير في الغضب، وقطيعة بائنة بين الشــارع ونظــام الحكم. كانت هناك شــعارات جديدة خطيرة وغير مسبوقة من قبيل «المخابرات منظمة إرهابية.»

التشدد الذي برز في تظاهرات الإثنين والجمعة الماضيين هو نتيجة طبيعية لاســتمرار النظام في تضييع الفــرص وإصراره على تجاهل غضب الشــارع والمضي إلى الأمام. بهذا التعنت ســيأتي عليه يوم لن يجد شخصا أو مجموعة يخاطبها وتستمع له. آنذاك يكون قد فات الأوان.

التشدد واحدة من أبرز سمات الحكم الجزائري منذ القدم. فهو متصلب يحب الخصوم المتصلبين لأنهم يخدمون خططه ويســهلّون عليه الإيقاع بهم، وينبذ السياسيين ومن يعملون العقل. في تســعينيات القرن الماضي ترك قادة العمل السياسي الإســاميي­ن في السجون وراح يتفاوض مع عتاة الإرهابيين والقتلة في المغارات وسفوح الجبال.

كان توقف التظاهرات وهدوء الشــارع طيلة العــام الماضي هدية نزلت من الســماء على نظام الحكم من حيث التوقيت الجيّد والظروف المناســبة. لكنه، كعادته، أضاعها على نفســه وعلى الجزائريين برفضه قــراءة الواقع القراءة الصحيحــة. بدل اســتغلال عام الهدوء للبدء بمواجهة المشــاكل السياســية والاقتصادي­ــة التي طرحها المتظاهرون وغيرهم مــن الجزائريين، وحلّ منها ما أمكن.. وبدلا من اتخــاذ بعض القرارات العامة الضروريــة والمفيدة للجميع.. وبدلا من إرسال إشــارات حسن النية والتصالح مع الشــارع.. اختار النظام، وعلى رأســه الرئيس عبد المجيد تبون، سياسة الهروب إلى الأمام لفرض الأمر الواقع، أو ما يسمى المرور بقوة.

ضمــن اســتراتيج­ية المرور بقوة تندرج الحملة الشرســة مــن الاعتقالات التي استهدفت وجوه المعارضة المســتقلة والمجتمع المدني الحر ورموز الحراك الشعبي، وكذلك التعذيب الذي تعرَّض له بعضهم في السجون. وضمنها أيضا يندرج إغلاق الســلطات وســائل الإعلام الحكومية كليا وتحويلها إلى أدوات للدعاية السياســية والتضليل بشكل لا يختلف عن عهد المخلوع. تضمَّن مسعى المرور بقوة أيضا تنظيم استفتاء على الدستور قاطعته الأغلبية الساحقة )نحو 80 في المئة( من الناخبين. أصرَّ أصحاب الحكم على ذلك الاســتفتا­ء على الرغم من أنه لم يكن أولوية عاجلة، ورغم أن كل المؤشــرات كانت «في الأحمر » وتنذر بأن المقاطعة ستكون غير مســبوقة وتمس بمصداقية الدستور. ضمن المسعى ذاته كذلك يندرج تعيين رجل أمضى العقدين الماضيين من عمره قارئا لرســائل المخلوع في مهرجانات التملق والنفاق السياسي، وزيرا للسياحة في «الجزائر الجديدة». وضمنــه أيضا يندرج «انتخاب» صالــح قوجيل، وهو رجل تجاوز التســعين من عمره، رئيســا لمجلس الأمة )الغرفة النيابية الثانية( في بلد ثلثا سكانه دون الثلاثين.

في مقابل هذا العناد أفرج النظام عن نحو خمســن من سجناء الرأي. كانت تلــك النقطة المضيئة الوحيــدة، لكنها ينطبق عليها القول الشــائع «قليل جدا ومتأخر جدا» لأنها مجرد قطرة أمام ضخامة الباقي.

كان يمكن لـــسياسة المرور بقوة أن تفيد أصحابها، كما فعلت تجارب سابقة فــي الجزائر وغيرها، لــو أن الجزائريين لم يتغيّروا بكل هــذا العمق. لكن هذا الخيار فشــل، وكان فشــا منتظرًا. وبدل أن تكون اســتراحة الســنة فرصة لامتصــاص الغضب وتخفيــف الاحتقان، ترك الحكام الشــارع يراكم الغضب ويتحيَّن الفرصة لتفجيره، فكان ما كان يومي الإثنين والجمعة، والباقي آت.

لم يكن فشل استراتيجية النظام صدفة أو مفاجأة. إنها قطعة ذات وجهين لا ألغاز فيها: الجزائريون كســروا القيود، والقائمون على رأس الحكم يرفضون تقبّل حقيقة أن الطير خرج من القفص ويرفض العودة إليه. لن يعود لأن جدار الخوف سقط، وحقنة التخويف من العشرية الحمراء والعدو الخارجي انتهى مفعولها، وورقة التقســيم الإثنــي والأيديولو­جي والثقافي فــي تراجع أكيد. الذين في صدارة ثورة الشــارع جزائريون غير أولئك الذين حطمتهم العشرية الدموية فتركوا المخلوع وأفراد حاشيته يعبثون بمصائرهم ومصائر أبنائهم.

من الصعب والمبكر الجزم بأن الموجة الثانية من الحراك قضت، أو ستقضي، علــى طموح النظــام الحاكم فــي تمرير أجندته. يجــب التذكير بــأن النظام الجزائري نجح مرارا في تجاوز أزمات لا تقل تعقيدا، وفي استيعاب صدمات لا تقل ألًما. لكن من الصعب، في المقابل، الجزم بأن هذا النظام سيمرِّر أجندته بذات السهولة والثقة التي تعوَّد عليهما.

ســتكون الانتخابات البرلمانية المقررة قبل الصيف الامتحان الأول للطرفين تحت الموجة الثانية من الحراك.

المؤشــرات القليلة حتى الآن توحــي بأن النظام متجه إلــى تكرار تجارب الانتخابات النيابية الســابقة التي غيّرت الوجوه في البرلمان وكرَّست الفشل والتملق والكثير من الممارسات السياسية المقرفة.

إذا ما كرر الســيناري­و، فســيكون النظام قد ســجل هدفا في مرماه. يمكن، ساعتئذ، الجزم بأن الشارع كسب الجولة حتى قبل أن يخضها. ستكون خسارة سياسية فادحة هي آخر ما يحتاجه النظام وهو في هذه الورطة.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom