الأردن يسأل: كيف نوقف «ابتزاز الاستثمار»...؟ «جولة برسالة» للملك والخصاونة يتحدث عن «ثورة»... ما هي الخفايا؟
لأســباب متنوعــة يمكن اســتنتاجها، تحدث رئيس الوزراء الأردني الدكتور بشــر الخصاونة عن مــا ســمّاه أمــس الأول بـ»ثورة فــي مجال الاستثمار .»
تلك العبارة فيها قدر من الرنين السياسي حتى وإن كانت غير واضحــة، ولم ترافقها عندما قيلت أمام مجلس الأعـــيان تفاصـــيل مـحددة من أي نوع.
لكنها عبارة تبدو مهمة جــداً ظرفياً على الأقل وسياســياً ووطنياً؛ ففي وقت مبكر وقبل أسابيع عندمــا كان ضجيج المســتثمرين المحليين مرتفع الصــوت فــي مواجهة أنمــاط وآليــات التفعيل الضريبي تحديــداً كان وزير المالية الدكتور محمد العسعس يتحدث لـ »القدس العربي » بارتياح عن برامج نشــطة هدفها الاســتثمار الحقيقي الجدي ضمن بيئة جاذبة للأعمال، يمكنها أن تحترم فكرة العدالة الضريبية، وعلى أساس أن الأمر لا يتعلق بالجباية بقدر ما يتعلق بإحقاق القانون.
خاض العســعس مبكراً معركة رهان مع فكرته الضريبية، قوامها أن تحسين التحصيل الضريبي وتأسيس مسطرة وطنية موحدة وتفعيل القوانين يجذب الاســتثمار العميق والنبيل والطيب الذي تريــده البــاد الآن، والعكس هو الــذي يجلب الاستثمار غير المرغوب. طبعاً قد يبدو ذلك تبريرياً أو مغرقاً بالفرضيات العلمية، فالمســتثمر قبل أي اعتبار وعلى حد تعبير السياسي الخبير الدكتور ممدوح العبادي، يحتاج إلى معادلة ربحية، ومن يسيء للمستثمر أصلاً أو يحاول معاقبته يتعرض لعقاب مضاد من المستثمر نفسه.
ويمكن أيضاً فهم الأســباب التي تمنع الرئيس الخصاونة من تعريف عبارتــه المتعلقة بـ»ثورة في مجال الاستثمار» فتفاصيل تلك الثورة تطهى على نار هادئة. والقصــر الملكي مهتم بالتفاصيل، والإجراءات المطلوبة لا تتعلق بجذب المستثمرين فقــط لكــن تمكينهم وتنشــيط الأردنيــن منهم في الداخــل، والمشــوار هنا كما يقدر المستشــار الاقتصــادي المعــروف محمد الرواشــدة، طويل جداً بعد عقــود من الممارســات والإجراءات غير الإيجابية إذا لم تكن سامة.
يرى الرواشــدة مجدداً وهو فــي حالة نقاش دائم مع الملــف عبر «القدس العربــي» أن مقاربة وطنية أفقية جدية في إدارة الاقتصاد هي المطلوبة بعيداً عــن الارتجال والعشــوائية، فالاعتبارات متشــابكة، والاستثمار حتى ينشــط يحتاج إلى بيئة محــددة يعرفهــا المختصون خلافــاً لدولة المؤسسات والقانون.
مجــدداً.. لماذا تحــدث الخصاونة عــن ثورة استثمارية؟
لا يوجد حتى اللحظة جواب شاف، فالتفاصيل تعلم بهــا القيادة، وعبارة رئيــس الوزراء يمكن ملاحظــة أنها ولدت وبرزت بالتزامن مع رســالة ملكيــة ميدانية هذه المرة، فقــد زار الملك عبد الله الثاني مبادرتين استثماريتين لأردنيين، وتحديداً في ضواحــي جنوب العاصمة عمــان؛ الأولى لها علاقة بمشــروع زراعة ذكي وعصــري، والثانية لها علاقة بصناعة تكنولوجيا الألياف المتخصصة بالاتصالات.
مشــروعان متوسطان وليســا بحجم كبير أو عملاق.. رغم ذلك، زارهما الملــك علناً وتجول في المرافق وتحدث مع الموظفين والعمال.
تلك رســالة مرجعية تعنــي الكثير، ليس لأن الأمر يتعلق برعاية أو حماية استثمارات ضخمة أو متوســطة أو صغيرة، لكن لأن مؤسسة القصر تريــد إبلاغ المســتثمرين ضمنياً بأن التأســيس لحمايتهــم بعــد الآن علــى النار ويتحــول إلى استراتيجية دولة وخيار قيادة.
ليــس ســراً أن مثــل هــذه الرســالة الملكية الاختراقية حتى بحكــم الجغرافيا، أعقبت حادثة المصنع والنائب الشــهيرة التي أثــارت انزعاجاً كبيراً في مجال المستثمرين في القطاع الصناعي.
وليس ســراً القول بأن الإطلالة الاســتثمارية الملكية تريد دفع جميع الأطراف لعدم الاستســام لفكرة إمكانيــة اهتزاز المســتثمرين بعد الآن، أو لفكرة تخويف وإرهاب الاســتثمارات في المناطق تحت عنوان المســؤولية الاجتماعية، حيث يحفل ســجل الحكومة بالشــكاوى والتذمرات، وحيث القيادة المرجعية اطلعت على سلســلة موجعة من الإعاقات.
باختصار، مبادرة الملك الجديدة ترفض الإقرار بأن الجدل الحالــي في المصانع والاســتثمارات
وأهالي المناطق بمســتواه الرديء ليس قدراً على الأردنيين، وبــأن طمأنة الاســتثمارات أصبحت بوصلة ملكية وســيادية الآن، بما في ذلك حماية مرافقهــم من كل أنــواع التحــرش أو الابتزاز أو الإعاقات البيروقراطية، وتحديداً الأمنية.
لذلــك فقط يمكــن فهم عبــارة الخصاونة عن الحاجة إلى ثورة اســتثمارية في سياق التقاطه الشخصي لما تفكر به وتخطط له البوصلة الملكية، وعلى أســاس أن دعم الاســتثمار من الأولويات، وأنه بعد بعض الحوادث الابتزازية قد يصبح من الخطــوط الحمراء، فمن يتحدث عــن ثورة عليه كحكومة أن يستعد لها بعد التقاط ما هو جوهري في الحراك الملكي.
طبعاً ومجدداً، المشوار طويل، فثورة في مجال الاستثمار لا تتطلب فقط إصلاحاً هيكلياً أمنياً، بل تتطلب إصلاحياً قضائياً وسياســياً، وبيئة آمنة، ومعالجة أزمة الأدوات، والتخلص من الفســاد أو مقاومته، والأهــم أنها تحتاج إلى تغيير عميق في العقل الأمني البوليسي.
لعل الملك شــخصياً وجه في هــذا الاتجاه بعد رســالته الشــهيرة لمدير المخابرات العامة اللواء أحمد حســني بعنوان العــودة إلى الاختصاص، مــع تركيز ناضج فــي نفس الرســالة على وقف التدخل الأمني في الاستثمارات من حيث المتابعة والترخيــص، وحتــى المراقبة، علــى أن تتولى السلطات الدستورية الأخرى الواجب هنا.
بعد ظهور الملك برســالة تدعم الاســتثمار في ضواحي جنوب عمان تحديــداً، يفترض أن يبدأ الخصاونة وفوراً بالتمهيــد للثورة التي يتحدث عنها استثمارياً.
تلك لغــة جديدة في الأردن مشــوارها طويل صحيــح، لكنه قــد يبدأ قريبــاً علــى الأقل؛ لأن المطلوب قبل بقيــة الاعتبارات هــو تهيئة البلاد والتربــة لاســتثمارات بنيويــة عميقــة عابرة للحدود ومهندســة على أساس البوصلة الدولية والإقليمية.
هل تنجح الأدوات الحالية في الإدارة والحكم بمهمة كانت تصنف حتى وقت قريب بأنها «شــبه مستحيلة »؟
من المبكــر الادعاء بوجود جواب، لكن شــبح الإخفاق موجــود إذا لم يحصل فعلاً تغيير هيكلي أعمق.