Al-Quds Al-Arabi

لماذا لا يوجد اتحاد مغاربي ثلاثي؟

-

كم مرة أعلنــوا وفاتــه، وكم مرة قالوا إن إكرام الاتحاد المغاربي دفنه؟ لكن هل بتصريح من هنا أو بموقف من هناك، يثبت فعليا وجود ذلك الاتحاد، أو يعطى، على العكس، لكل المشككين والمنكرين دليــل إضافي على أنه صار كما يــرون هيكلا خاويــا وركاما من الأنقــاض؟ وهل أن حــال المغاربيين ســيكون حقا كحال من صام الدهر وأفطر بعد طول انتظار على بصلة؟

في الوقــت الــذي حلمــت فيه أجيــال مــن الليبيين والتونســي­ين والجزائريي­ن والمغاربة والموريتان­يين، على مدى عقود طويلة باتحاد إقليمي كبير يمتد من بنغازي إلى نواذيبو، ويعيش فيه العــرب والأمازيغ وباقي المكونات العرقيــة والثقافية جنبــا إلى جنب، باتت تســمع اليوم دعــوات مريبة لتكتل يجمع فقط ثلاثــة أقطارمغارب­ية من أصل خمســة، تحت شــعار جذاب هو فتح الحدود بينها، واعتمادها عملة موحــدة، وكأن ذلك لن يكــون ممكنا إلا بتقطيع الاتحاد الكبير وتفكيكه إلى قطع وأجزاء، وشطره إلى نصفين منفصلين. فأي انحــدار وصله الحلم المغاربي بعدها؟ وما المبرر لذلك؟ ثم هل كان الأمر عفويا؟ أم أن جهة ما لا ترغب، لا فقط في أن يرى ذلك الاتحاد النور، بل حتى في أن يستمر، ولو في العقول والعواطف والأذهان هي من وقفت وراء الأمر؟

إن ما جعــل اختزال المغــرب الكبير فــي تجمع ثلاثي، يلوح الفرضيــة الواقعية الأقرب لتحقيــق الاتحاد، ربما على المدى المتوســط، هو تلاعب البعــض بتصريح أدلى به مؤخرا الشــيخ راشد الغنوشــي لمحطة إذاعية محلية، ودخول آخريــن على الخط لتأويله بشــكل مخالف تماما للقصد. فمن عــرف الرجل عن قرب وخبر مواقفه وأفكاره، سوف لن يصدق بســهولة أنه يمكنه أن يفعل ذلك. غير أن رئيس البرلمان التونســي وزعيم حركة النهضة، بات ومع كل مــا يواجهه مــن انتقادات حادة وهجومات مســتمرة مــن جانــب معارضيــه المحليــن، بنظر بعــض المغاربة والموريتان­يين على الأقــل، متهما بالرغبة في إقصاء بلدين كبيرين ومهمين من الاتحــاد المغاربي، وقصر ذلك الاتحاد على مثلث يضم ليبيا وتونــس والجزائر. أما كيف توصل هؤلاء لمثل ذلك الاســتنتا­ج؟ فببســاطة من خلال اقتطاع بعض وسائل التواصل والإعلام لتصريح أدلى به الأربعاء الماضي، لإحــدى المحطــات الإذاعية المحلية فــي تونس، وإخراجه تماما من ســياقه، ووضعه بشــكل مناقض كليا للفكرة الأصلية التــي أراد التعبير عنها. وربما ســيكون من المســتبعد جــدا أن يكون جــزء كبير ممن تبــاروا في كيل الاتهام للغنوشــي بتنكره للمغــرب الكبير، أو بجهله بجغرافيته أو تاريخــه، أو حتى برغبته فــي إقامة دولة إخوانية في الشــمال الافريقي، مثلما حاولت قناة «سكاي نيوز» الإماراتية تصويره، قد ســمعوا جيدا سؤال المذيع قبل أن يسمعوا جواب الشيخ. فما الذي كان مطلوبا منه أن يقوله إن كان الســائل قد توجه له باستفسار محدد حول ما يتوقعه من أولويات لتونس في علاقتها بليبيا والجزائر والإدارة الأمريكية الجديدة؟ هل كان عليه أن يذكر حينها الــدول المغاربية الخمس، أم كان الأحــرى والأجدر به أن يكون دقيقا ومباشــرا، ويرد على قدر السؤال المعروض؟ ثم ما العيب أو الإشــكال في أنه قال «إن التطورات القائمة فــي العالم والإقليم تضع أمام تونس فرصا غير مســتغلة بالقدر الكافــي. فالمفترض أن أول ســاحة كانت تدار فيها القضية الليبية هي تونس، لكــن هذا لم يحصل، لأنه وقع التعامل مع ليبيا على أسس أيديولوجية»، وما المشكل في أنه طالب أيضا بــأن يكون «مثلث الجزائر تونس ليبيا هو مثلث النمو بالنسبة لتونس»؟ ألم يستطرد سريعا بعدها ويضع الأمور في نصابها، ويوضح الغاية من ذلك ويقول، إن ذلك المثلث يجب أن يكون منطلقــا لإنعاش حلم اتحاد المغرب العربي الكبير، الذي سيســاعد على حل المشــاكل التي تعيشــها تونس، في إطار إقليمي كما أضاف؟ لقد كان الغنوشــي يتحدث هنا فقط من منطلــق ما اعتقده البحث عن حلول عاجلة لاقتصاد تونس المنكوب، وســيكون من باب التجني أن يؤول ذلك، أو يفهم على أنه اســتهداف أو إنقــاص، أو رغبة في إقصاء المغــرب أو موريتانيا، لكن ما أخرج تصريحاته تماما عن ســياقها بشكل كبير هو دخول عبد الرزاق مقري زعيم «حركة مجتمع الســلم» الجزائرية على الخــط، وتعليقه الغريب الســبت الماضــي عما قاله الغنوشــي، الذي نقلته وســائل الإعلام الجزائرية، وأكد فيــه أنه يدعم طرح الأخير حول فتح الحدود، وتبني عملة واحدة بــن تونس والجزائر، مســتدركا أن «الغنوشــي ذكــر تونس والجزائــر وليبيا، ونســي موريتانيا ونحن نضيفها»، ومبررا إقصاء المغرب بأنه «جلب الصهاينة لباب البيت، ولا يمكن أن نثق فيه مجددا، إلا في حال ابتعاده عن الطريق الذي ســلكه، وعندها سيكون هناك حديث آخر.» ومختتمــا تعليقه بالقول: «سنتمســك بالمغــرب العربي، ونســاند أي اتفــاق يجري بين الــدول الأربــع، والبقية ستأتي كما حدث مع الاتحاد الأوروبي». ووجه الغرابة هو ليس فقط أن كلام المقــري، كان انحرافا واضحا عن فكرة الغنوشــي في أن يكون التعاون الثلاثي مفتاحا لتحقيق المغرب الكبير، بل إن ما جاء في تعقيبه كان تنكرا وتنصلا من أهــم مبدأ تعتمده الحركات الإســامية علــى تنوعها واختلافهــ­ا، وهو وحدة أقطار الأمــة. فكيف يمكن التفكير في اتحاد مغاربي بمعزل عن المغرب؟ وهل ســيكون هناك اتحاد حقيقي بإقصــاء عضو من أعضائــه؟ إن أي تبرير لذلك بأي موقف، أو سياســة أو توجه قد تختاره الرباط، ولا يوافق عليه غيرها ســيكون نوعا مــن العبث. فمن يا ترى يحدد شــروط أو مواصفات الدولــة المغاربية، التي تقبل في الاتحاد المغاربي، أو لا تقبــل غير ثوابت التاريخ والجغرافيا، والإرث المشترك بين شــعوبه؟ ثم من قال إن الاتحــادا­ت الثنائية أو الثلاثية، ســتقود حتما إلى الحلم المغاربي؟

ألــم يجــرب المغاربيون في فتــرات مختلفــة مثل تلك الاتحادات الورقية، التي كانــت نتيجتها الوحيدة تعميق الفرقة والانقســا­م بينهــم؟ إن كل ما حصل للأســف هو أن هنــاك مــن أراد من خلال إثــارة تلــك الزوبعة ضرب عصفورين بحجر واحد. فعدا عن تكريس حالة التشــتت والاصطفاف داخل المنطقة، واســتبقاء الصــدام المغربي والجزائري وتغذيته، كان الهــدف الآخر، هو إظهار مأزق تعامل الحركات الإســامية، التي صعدت للسلطة في أكثر من مــكان من المغرب العربي، مع الفكرة المغاربية. ولم يكن من باب الصدفة أبدا أن يكون أول رد مغربي على ما أثارته مثل تلك التأويلات غير البريئة لكلام الغنوشي من جانب حزب العدالة والتنمية المغربي، الذي قال أحد قياديه وهو عبد العزيز أفتاتي إن «مبادرة الغنوشي غير موفقة» وإنه «تكلم تحت ضغط المشــاكل التي تعانيهــا بعض الاقطار المغاربية»، وإن ذلــك الكلام يخالــف قناعاته وإنه ليس كلامه. لكن الســؤال الأهم يبقى ما الــذي فعله المغاربيون لتكريس مشــروعهم الجماعي، وهل إنهم تحركوا حقا في الأقطار الخمسة لدعمه؟ أم إنهم مازالوا يغطون في سبات عميق؟ سيكون عليهم الآن بالذات أن يجيبوا بصراحة عن ذلك. *كاتب وصحافي من تونس

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom