Al-Quds Al-Arabi

إلِيسيُو دْيِيغُو: شاعرٌ كُوبي يُحَاوِرُ الموتىَ

-

■ فــي أول مــارس/آذار الحالــي حلت الذكرى الســابعة والعشــرون لرحيل أحد أكبر الشــعراء الكوبيين إليســيُو دييغو) 2 يوليو/تموز 1920 كوبا ـ 1 مارس/آذار 1994 المكســيك( الذي بصم الشــعرَ الكوبي على الخصــوص، والأمريكــ­ي اللاتيني المعاصر على وجــه العموم بإبداعاتــ­ه التي جعلته يتبوأ أعلى المراتب فــي العالم الناطق بلغة سيرفانتيس في هذا المنوال.

حَسْبُ الخليلين نأيُ الأرضِ

في مقدمة كتابه «محادثات أو محاورات مع الموتــى» التي تحمل عنــوان: «أصوات أصدقائي» يشير الشــاعر إليسيو دييغو، إلــى أن محاوراتــه مع الموتــىَ عبارة عن دراسات، واســتبطان­ات، واســتغوار­ات لأعماق ومضامين أعمال اثني عشــر شاعراً ناطقا باللغــة الإنكليزية، ممن قرأ لهم وأحبهــم وأعْجِب بإبداعاتهم قيد حياته. ويؤكد الكاتب أن هؤلاء الشــعراء ليسوا مجرد أصدقاء عابرين عاديين لنــا، بل إننا نلتقي بهم في كل حــن، ونراهم في كل يوم ونحلم بهم في أحلام يقظتنا، وفي صحونا على حد ســواء، وقد أصبحت صداقتهم لنــا ضرباً من الحضور الدائــم معنا، على الرغم من هوة الزمن الســحيقة التــي تفصل بيننا وبينهــم، حيث لم يعد لهم وجود فِعْلي في حياتنا، ولكنهم ما فتئوا يعيشــون بيننا ومعنا بأعمالهــم الإبداعية، التي أضحــت اليوم تلامس الخلــود. وكأني بالكاتــب الكوبي يذكرنا في هذا الكتاب بأبطال وليام شكســبير، أو بشخصيات الكاتب الكلاسيكي الإسباني القديم أرثيبستي دي هيتا صاحب كتاب «الحب الطيــب» أو ببطل رائعــة دون كيخوته دي لا مانشــا لميغيل دي سيرفانتيس الذين كانوا يرون في عبارة «أن تنام معناه أن تموت» وهكذا يلتقــي النوم أو الحلم مع الموت، في الأحلام العميقة أو في بعض أحلام اليقظة، ويفسر ذاك بذاك؛ وتبدو المسافة بين الكاتب الكوبي اليسيُو دييغو بعيدة وسحيقة في الوهلة الأولى، بين عالم اليقظــة والحلم، أو بين عالم الأحيــاء والأموات، وهي في الواقع مسافة قريبة جداً، تصفها شاعرتنا العربية القديمة الخنساء في أعمق وأبلغ وصف مُجسدةً بذلك الشعورَ التراجيدي، والدرامي، الفلسفي المتناوش الضارب في القدم، فتقول :

حَسْبُ الخليلين نأيُ الأرضِ بينهما / هذا عليها وذاكَ تحتها بالي. وجاء هذا البيت في رواية أخرى كما يلي :

حَسْبُ الخليلين كون الأرضِ بينهما / هذا عليها وهذا تحتها رِممَا

إثنى عشر شاعراً صديقاً

يَجمــع الشــاعر الكوبي في هــذا الكتاب أصواتاً ممــن يعتبرهم أصدقاءه، بدون أن يراهم في الحياة الحقيقية، إنهم يحدثونه باللغة الإنكليزية وهي لغة تختلف أشــد الاختلاف عن لغته الإسبانية ومع ذلك لم يكن في إمكانه كبح شــعوره بالســعادة وغبطته بمعرفتهم، وهــذا ما حــدا به للتعــرف إليهــم ومحاورتهــ­م ونقلهــم إلى لغة سيرفانتيس لرصد صدى عذاباتهم ومآسيهم ومعاناتهم وسعادتهم وإشراقاتهم وهمساتهم في أذنيْه، وفي قلبه، وفي أعماق وجدانه. كل شاعر مُدرج في كتاب الشاعر اليســيُو دييغو يسبقه تقديم مقتضب حول نبذة عن حياته وســيرته الذاتية، حيث يتحــدث الكاتب عن بداية صداقته به، وتعرفه عليه، وإعجابه به وبنصوصه، ثم يقدم لنا تبريراً أو تفسيراً عن الدافع وراء اختياره لهذا الشاعر ولقصيدته أو لقصائده التي ترجمها له، وضمنها كتابه، وقد أدرج هؤلاء الشعراء بشكل كرونولوجي مُتسلســل ومُتتابع تاريخياً، من أقدم التواريخ إلى وقتنا الراهن، بدءاً بالشــاعر أندريو مارفيل )1621 ـ 1679( وهو شــاعر ميتافيزيقي من الأصدقاء المقربين للشــاعر الإنكليزي جون ميلتون، وقد اختار للشاعر مارفيل قصيدته التي تحمل عنوان: «إلى عشيقتي الُمراغة» أما الشاعر الإنكليزي الكلاسيكي أستاذ التاريخ في

جامعــة كامبريدج توماس جــراي )1716 ـ 1771( فإنه يحتل المرتبة الثانية في هذه المجموعة، يليه الشاعر والكاتب والمفكر الراهب الكاثوليكي، الذي ينحدر من أصل إسباني وهو جوســيف بلانكو وايت )1775 ـ 1841( وقــد اختار له قصيدة بعنوان «الليل» ويليه شــاعر معروف وهو الكاتب المســرحي روبرت براونينج )1812 ـ 1889( الذي يُعتبر من كبار شــعراء القرن العشــرين في اللغة الإنكليزية وقد أدرج له قصيدته التي تحمل عنوان «الأســقف يأمر دفنه في كنيســة ســان براكسيديس» ثم يليه الشاعر كوفانتري باتمور )1823 ـ 1896( الذي اختار له قصيــدة بعنوان «وداع» وبعده يأتي دور أرنســت داوزن (1867 ـ 1900( وهو شــاعر وكاتب وروائي لــه عدة قصص قصيرة مهمة، وقد اختار له قصيدتــه التي تحمل عنوان «مملكة الخير تحت أي نوعٍ من البشــر كنت أنا» يليه الكاتب والشاعرراي­ديارد كيبلينغ (1885 ـ 1936( المعروف بكتاباته عن جنود بلاده الإنكليز في الهند، والمعروف بكتاباته عن أدب الأطفال، وقد أدرج له الشــاعر إليسُــيو دييغو إثنيْن من قصائده تحت عنوان «المرآة» و«غنائية المهد لسانتا إلينا » يليه الشــاعر الصحافي والروائي وكاتب أدب الرحلات ج. ك. تســترتون )1874 ـ 1936( وقد اختار للتحــاور معه قصيدته التي تحمل عنوان «النقابات الأربع» ويليه الشــاعر والروائي والمسرحي الإنكليــز­ي والتر دي لامــاري )1873 ـ 1956( وقــد اختار له ثلاث قصائد بعنوان «الخريف» و«الماضي كله» و«مرثية» و«غنائية الأمير المجنون» وقصيدة «آهٍ مني» ونلتقي في الأخير في هذه الأنطولوجي­ا الغريبة من أصدقاء الشــاعر إليســيو دييغو من الموتى مع الشاعرة والروائية المســرحية الأمريكية إيدنا فينسنت ميلاي )1892 ـ 1952) التــي أدرج لها قصائد بعنــوان «مجداف البحــر الأصفر» و«وعاء هندي » و«إلى باو تشــن ». وكانت هذه الشــاعرة المرأة الأولى التي حصلت على جائزة بوليتزر للشــعر، وهي المــرأة الوحيدة المدرجة ضمن كتاب إلســيو دييغو الذي صرح في ما بعد عن ســبب إدراجها في كتابه حيث قال صراحــة: «لقد أحببتها وعلقتُ بها منذ أول وهلة عندما رأيتُ صورتها، وهي بعد في شــرخ الشــباب وريعانه كانت فاتنة » وسواهم.

رسالة وجدانية

هذا الكتــاب الذي يحاور مؤلفــه فيه أصدقــاءَه الموتىَ، ويحلم بهم في يقظته يحمل رســالة وجدانية من شــاعر إلى شعراء مثله، فجاءت ترجمته لهم بالتالي شعراً رقيقاً يحفل بأرق وأعمق المعاني، وأجمــل الصور والأخيلة، ويرى الشــاعر الكوبي إليســيُو دييغو، أن أي ترجمة هي مســتحيلة إذا لم يكن مبعثهــا الإعجاب. ففي أزيد من عشــرين قصيدة يحقق الشــاعر مبتغاه، إذ يقــدم لنا أصدقاءَه الشعراء بحرارة وألمعية وذكاء مع فهم عميق لنصوصهم وأشعارهم، وقد جاءت ترجمته لهم بليغة ومُوفية تُحاكي «النصوص الآســرة»

لخورخي لويس بورخيس. يشير الشــاعر الكوبي في تعليق له عن الشــاعر الإنكليزي توماس جراي فيقول: «إنه ذات مساء أو صباح عند عودته من جولته القروية اليومية أمســك جراي بريشته، ريشة الأوز الخفيفــة وكتب مرثيته الشــهيرة، فأنا لا أعتقــد ـ مع رجاء أن يقبل عذري ـ بأنه كتبها في مقبرة الكنيســة نفسها، كما يدل على ذلك عنوانها، كما أنني لا أعتقد أنه كان يحمل معه دائماً في جيوب سترته وصية الإبداع الُمقدســة، التي كان على المــرء أن يحملها معه في ذلك الوقت، تحسباً من أن تلقاه شياطين شــعره، وتغشاه بنات أفكاره، وهلوسات، وهمسات روحه خلال تجواله.»

شهادة غابرييل غارسيا ماركيز

الروائي الكولومبي غابرييل غارســيا ماركيز كتب عن الشــاعر الكوبي إلســييُو دييغو فــي الغلاف الخلفي لكتابــه «محاورات مع الموتى »: «لقد كان إليسيُو دييغو أحد أكبر الشعراء في اللغة القشتالية )الإســباني­ة( في أمريكا اللاتينية، إنه يقدم لنا في هذا الكتاب نسخةً من مفتاح ترجمة شــعرية لهؤلاء الأصدقاء، الذيــن أبدعوا في لغة ويليام شكسبير، لقد رافقوا أيامه بســعادة وحبور، وهو يصر مثل أبٍ عالمٍ وحكيم، على أن يرافقهم عبر قصائدهم المختارة، بل ومرافقة شــعرائنا كذلك، فلنسمح له ولهم بالدخول إلى هذا الكتاب، لنتحدث ونتحاور نحن أيضا مع هؤلاء الأصدقاء الُمتوفين تحت ضوء الشــعر الأبدي، والنظرة الممتنة والثاقبة للشاعر.»

« الخريف» الذي كان!

ونقــدم في ما يلي مقطوعةً شــعرية للشــاعر الإنكليزي توماس جراي الُمدرجة في كتاب إليسيو دييغو وهي بعنوان «الخريف» ومن الملاحظ أن قوافي أبياتها تنتهي بفعل الماضي الناقص، كان أو كانت، وقد نقلناها للقارئ الكريم بعد ترجمتها عن اللغة الإسبانية: لم تعد هناك سوى الرياح حيث الورود كانت، ومطر بارد حيث الحشائش الندية كانت، وسحاب مثل الغنم تتسلق المسالكَ الوعرة وسماوات حالكةً حيث القنبرة كانت، لم يعد هناك ذهب حيث شَعرك كان، لم يعد هناك دفء حيث يدك كانت، شاردة تائهة تحت الأشواق طيفك يملأ كل مكان حيث وجهك كان رياحاً حزينة وحيث صوتك كان دموعاً حيث قلبي كان، دائماً معي، يا بني دائماً معي الصمت وحده هو الأبقى.

 ??  ?? الشاعر الكوبي إليسيو دييغو
الشاعر الكوبي إليسيو دييغو
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom