Al-Quds Al-Arabi

محمد الهادي الشريف أستاذ الأجيال في ذمة الله

- محمدّو أميّن ٭ البروفيسور في قسم التاريخ - جامعة نواكشوط

أصبــت بحزن لا يوصــف هذا الصبــاح وأنا أتلقــى من أخي الفاضل وصديقي العزيز البروفيســ­ور جمال بن طاهر نبأ نعي أستاذنا المشــترك وأستاذ الأجيال البروفيســ­ور محمد الهادي الشريف، أحد أقطاب المدرسة التاريخية التونسية.

كيــف لا؟ إنه حدث جلل! يســتحق الذهول والشــرود وذرف الدموع وهو ما حصل بالنســبة لي وللكثيرين غيري مِمن حُظوا بالتعرف على فقيد البحث التاريخي الرصين.

رئيس قسم التاريخ

كيف لا؟ ولم تُتِحْ لي ظروفُ الجائحة أن أحظى بشرف السير في موكب جنــازة أســتاذي وقدوتي، وكنت عقــدت العزم بعد علمــي بمرضه -وبُحتُ لبعض الأصدقــاء بذلك - أن أكون -إن قدر لي العيش بعده- من ضمن من يحضرون موكبه الجنائزي.

كيــف لا؟ وقــد أثقــل الراحل كاهلــي -وجيلي مــن الباحثين - بديــون لا تحصــى فقد درّســني، فعرفت فيه القــدرة المعرفية والتواضــع الجــم والكرم الأصيل، وتُوج هذا المســار بإشــرافه على أطروحتي ففتح لي -كما فتح لغيري- قلبه الكبير ونورني بعقله المتبصر، فكان نعم الموجه والناصح والمصحح.

عرفت المرحوم محمد الهادي الشــريف فــي ثمانينيات القرن الماضــي بنواكشــوط، وأنا أخطــو خطواتي الأولى فــي التعليم العالــي، وكنــت وقتهــا طالبــا فــي المدرســة العليــا للأســاتذة والمفتشــن، حينما كان يتــردد، بصفته أســتاذا زائرا، على هذه المؤسسة مدرسا ومشرفا ومناقشا.

وتعمقــت معرفتنــا عندمــا حصلــت ســنة 1985 علــى منحة لمواصلــة دراســاتي العليا بتونس، وكان المرحــوم يومها رئيس قســم التاريخ بكليــة الآداب والعلوم الإنســاني­ة/جامعة تونس الأولى.

وما زلــت أتذكر أول لقاء جمعنا بمكتبه بداية شــهر تشــرين الأول- أكتوبر 1985 حيث سلمته ملفي والتمست منه المساعدة في تسريع عملية التسجيل لارتباطها بجملة من القضايا الإدارية التي يصطدم بها عادة الطلبــة الوافدون الجدد من الخارج، فرد علــيّ بأســلوبه اللبق الــذي لا يخلو مــن دعابة تســتهدف إزالة الحــرج: «أهلا وســهلا بالشــناقط­ة فــي بلدهم الثانــي تونس، لا تقلــق يا محمــدو ]ومدّ الــدال طويــا[. فأنت في بيتــك، ربّنا إِسَــهّلْ». وأضاف مسترسلا: «لقد عرفت الطلبة الموريتاني­ين من خلال جمال ولد الحسن وولد السعد، فالموريتان­يون يذكرونني بالطلبة أيام زمان.»!

وحينمــا أكمــل تصفــح الملــف -ومن ضمنــه مذكــرة تخرج أعددتها للحصول على شــهادة الأستاذية )المتريز( من المدرسة العليــا للأســاتذة والمفتشــن وعنوانهــا «أزمــة إمارة التــرارزَة خــال القرن التاســع عشــر»- أضــاف قائلا بتواضــع غريب: «آهْـــ ! أنت أيضا تشــتغل علــى ظاهرة التأزم في القرن التاســع عشــر. إذن نحن زملاء». فأجبته: «أســتاذي الفاضل، أنا مجرد طالــب مبتدئ لديكــم «. فرد عليّ بتواضع أيضــا: «بل أنت زميل باحث وأخ شــقيق. وبودي أن تواصــل البحث حول هذه الفترة المهمة التي نشــترك في الاهتمام بهــا والتي يطبعها تأزم واضح في بلداننا ناجم، من بين أمور أخرى، عن انعكاســات التوســع الاســتعما­ري». وســأدرك لاحقا أنــه ربما كان يشــير إلى بحثه الشــهير الموســوم: «التوســع الأوروبــي ومصاعــب تونس من 1815 إلى 1830» المنشــور ســنة 1970 في مجلة العالم الإسلامي والأبيض المتوسط.

معهد الدراسات الإفريقية

وتواصلت علاقاتنا وتوطدت عبر البحث والتدريس، وخاصة منــذ أن شــرّفني بالإشــراف علــى أطروحتي للدكتــورا­ه حول: «المجتمع البيضاني في القرن التاســع عشر )قراءة في الرحلات الاستكشافي­ة الفرنسية)» التي جمع خلال تأطيرها بين. صرامة الأستاذ وتواضع العالم وحنان الأب وسمو الإنسان.

وكان اعتزازي كبيرا بالســرور الذي عبر لي عنه البروفيسور محمــد الهــادي الشــريف وهــو يناقشــني فــي «أول أطروحة دكتوراه يعدها باحث موريتاني» تحت إشرافه.

وظل الراحــل يغمرني برعايته حتى بعد مناقشــة ذلك العمل ســنة 1997، فعندمــا أبلغته أن معهــد الدراســات الإفريقية في جامعة محمد الخامس قرّر نشر الأطروحة، اقترح عليّ أن يتولى شخصيا كتابة تقديم طبعتها الأولى.

وبالفعــل ما لبث أن أبــرق لي بالتقديم وأنــا يومها في مهمة بحث بأرشــيف ما وراء البحار في مدينة أكس-آن- بروفانص الفرنسية.

يتحلى الأســتاذ الدكتــور محمــد الهادي الشــريف بخصال يصعــب حصرهــا، فقــد كان مناضلا وطنيــا وباحثــا متبصرا وأســتاذا متميــزا ومؤرخا متمرســا وعالمــا متواضعــا ومثقفا متساميا وإنسانا خلوقا.

وبرحيــل المرحــوم محمد الهــادي الشــريف تكون المدرســة التاريخيــ­ة العربيــة قد فقــدت أحد أبــرز مؤسســيها وأركانها، فتعزية خالصة لأســرة الفقيد الصغيرة.. للجامعة التونســية.. للمؤرخين عربا وأجانبَ... للبحث العلمي الرصين.. ولأخلاقيات الأستاذ الجامعي الكفء والباحث الأكاديمي الفذ.

وعزاؤنا في فقد أســتاذنا أنه خلال مساره العلمي والتربوي لــم يــألُ جهــدا فــي تكويــن أجيال مــن الباحثــن لا شــك أنهم سيأخذون المشــعل ويواصلون الدرب رغم التحديات المستجدة والمصاعب الجمة. وختاما نتضرع إلى المولى عزّ وجلّ أن يسكن الفقيد فســيح جناته وأن يبوئــه مقعد صدق عنــد مليك مقتدر، وأن يبــارك في خلفه ويلهم أســرته وزملاءه وأصدقاءه وطلبته الصبر والسلوان، راجين أن نكون جميعا من «الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليــه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون» (صدق الله العظيم(.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom