Al-Quds Al-Arabi

مرة أخرى انتخابات... فهل سيجزينا آذار

- *كاتب فلسطيني

يأتينا آذار/مــارس وهو مثقل بالنعــاس وبالعتــاب؛ ونحــن، عشّاقَه الأثيرين، ما زلنا نجهش، كلٌّ على أريكته، بالهتاف، ونُطعم لياليه أحلامنا والســرابا. بين آذارين غفونا فتاهت شــواطئنا وكل شــيء حولنا تغيّر؛ حتى ما حســبناه في قصائدنــا ربيعنا، لن يكون في ما يبدو أكثر من ظل كســير «لربيع» أشــقائنا العرب؛ فلونه، مثل لــون الوجع، أحمر، ومذاقــه مثل الرماد الأخضــر يخدع ويلســع. وجهتنا في الثالــث والعشــرين المقبل نحــو المجهول، فمن ســيضمن للعشــاق ضحكات زهر اللــوز، بعد انقضاء هذا الشــتاء الأسود؟ ومتى سنعرف كيف نبني لنا وطنًا من لغة لا تدمن «أحابيل البلاغة» ولا تنام على رموش السحاب؟

يحــاول البعــض إقناعنا بــأن أحوالنا في إســرائيل، رغم تهافت الأســئلة والعقد، ما زالت عادية ولا تقلق؛ فكل الخرائب التي نتأت في مواقعنا، وكل الرماح التي تساقطت علــى جيادنــا، وكل الصــدور التــي عرّتها أربــع جولات انتخابيــة، لم تكن، وفــق حســاباتهم، إلا تواقيع لحروب اليهود مع اليهود؛ وجميع ما نواجهه من تداعيات وأزمات، ليس إلا علامات ربّانية على دنو نهاية «الكيان الصهيوني»

وتباشــير لســاعة الفرج والخلاص، وما دامــت تلك هي البشــرى فإن هؤلاء يدعوننا لمقاطعة الانتخابات، لأنها في البداية وفي النهاية، لعبة الصهيونية الخبيثة، والكنيست وَكرها المقيت.

أنا لســت من هؤلاء المطمئنين الواهمين؛ فإسرائيل التي عرفناها وواجهنا سياساتها القمعية لعقود عديدة، تمضي بخطــوات من نار نحــو العدم، وتشــلح جلودها القديمة، وتطرد «قضاتها» وتستبدلهم بملوك لن يرضوا «بالأغراب» إلا عبيداً صاغرين فــي أراضيهــا، أو إذا عصوها، فقرابين على مذابح الــولاء، أو علــى أنوف الخناجــر. وقد يكون بطء التحــولات السياســية والاجتماعي­ة على الســاحة الإســرائي­لية، وانصهارهــ­ا فــي ما يحصل على الســاحة العالمية وفي منطقتنا، هو أحد الأســباب التي تدفع ببعض المواطنين العرب، إلى عدم ملاحظة الفوارق بين ما ميّز نظام الحكــم الذي كان قائماً منذ الاعلان عن الدولة، وما تشــكّل في الســنوات الأخيرة الماضية ويتشــكّل فــي هذه الأيام؛ وقد تكون ســيولة اللغة اليمينيــة الصهيونية العنصرية وفوضاها الواخزة المنبعثة من أفواه جميع قيادات الأحزاب الصهيونية المتنافســ­ة في جولات الانتخابات الحالية، هي أيضاً، ســببا لخلق ذلــك الوهم لدى الكثيريــن واقتناعهم بأن جميع هؤلاء اليهود متشــابهون، ولا فرق بالنسبة لنا، العربَ، إن حَكَمنا ابن جبير، أو بينت، أو ساعر، أو نتنياهو، أو لبيد، ولا مــا أهداف كل واحد منهــم النهائية، المعلنة أو المضمرة، على حد ســواء. ولكن تبقى تلك محض مغالطات يقعون فيها، وأوهاما كبيرة قــد جعلت الكثيرين يتخذون مواقف ملتبسة وعاقرة، لم تســعفنا في تحسين أوضاعنا الحياتية؛ بــل، على العكس، عززت تدافع تلك الســيرورة الفاشية المتنامية في الدولة، وساعدت على تفريخ وتسمين العديــد من القــوى الدينيــة اليمينية الجديــدة، المنفلتة وتعاظم تأثيرها داخل المجتمع اليهودي، حتى غدت فرصة تمكّنها من استلام مقاليد الحكم جائزة ، قاب آذار أو أقل.

من الخطأ الاســتخفا­ف أو إغفال خطورة تحوّل المجتمع اليهودي إلى كيان فاقد لمعظم القيم الإنســاني­ة الأساسية، وإلــى معظم المبادئ التي آمن بها بُناتــه الأوائل، وحاولوا تطويرها كدعائم تحفــظ أواصر دولتهم، التــي أرادوا أن تكون ديمقراطية بالنســبة للأكثرية اليهودية، وتحكم، في الوقت نفسه، بعنصرية فاجرة مواطنيها العرب.

لــن أعدّد اليوم الفــوارق بين إســرائيل الناكبة الباكية وابنــة الكارثة، وإســرائيل الظافــرة القــادرة وصانعة المواجع، وريثة حجارة الســماء وعسل الملائكة وغضبهم؛ ومــن لم يفقه ما يقوله لنا حــدس التاريخ، ينَم مثلما نامت أريحا، مدينة القمر، حين لم تســمع نعيق الأبواق ودردبات طبول الدم، وهي تعربد علــى نواصي الهضاب، ولم تصحُ على تصفيق أجنحة الســنونوا­ت الهاربة مذعورة في فجر كله سيوف وبكاء وصلاة.

لا أعــرف مــاذا يجب أن يحصــل لنا، نحــن المواطنين العرب في إســرائيل، كــي يتراجع البعض، ولــو من باب فائــدة التجريب المســؤول، أو بدافع «غريــزة البقاء» عن موقفه الداعي إلى مقاطعــة الانتخابات؛ وأتمنى أن يراجع هــؤلاء مواقفهم قبيل الســقوط الأخير فــي الهاوية؛ فمن غير المعقــول أن نفقد أملنــا بالتأثير فــي مجريات الحالة السياسية في واحدة من أهم ســاحات المواجهة والمقارعة والنضال: في الكنيست. لا يوجد مسح علمي ودقيق لدوافع الجهات الداعيــة إلى مقاطة الانتخابات، لكننا نســتطيع، من بــاب التكهن الحذر والتمعن في التجــارب الماضية، أن نفتــرض أن الفئة الأولــى والأكبر تلتــزم بموقف «الحركة الاسلامية الشــمالية» والثانية تنتمي لمجموعات صغيرة لا تؤمن بشرعية وبنجاعة نضال المواطنين العرب البرلماني؛ وقد برز من بينهم تاريخياً أتبــاع «حركة أبناء البلد» على تفرعاتها القوميــة المختلفة؛ وإلى جانــب هؤلاء المقاطعين لأســباب عقائديــة دينيــة أو مبدئية سياســية، ســنجد مجموعات أصابها السأم فاستســلمت للكسل وللامبالاة، نتيجة تكرار عمليات الانتخابات، التي لم تفض لأي مخرج سياســي؛ ومعهم مجموعات من «الزعلانــن» والمحتجين ومدمني الرفض العبثيــن والمزايدين. يمكن ويجب التأثير في بعض تلــك المجموعات وثنيهــا عن قرارهــا بمقاطعة الانتخابات؛ وهذه، بطبيعة الحال، هي أهم مهمات قيادات القائمة المشــتركة وكــوادر الأحزاب الشــريكة، وقد يكون انشــقاق الدكتور منصور عباس وحركته الإســامية عن القائمة المشــتركة، عاملًا محفــزًا لكثيرين ممن ابتعدوا عن الصناديق، ووقعوا فرائس لليأس وللغضب.

حق المواطــن في مقاطعة الانتخابــ­ات قائم، لكنني أرى

أن واجبه المواطني الأساســي يقضي المشاركة فيها؛ فعدم مشــاركته يضر بمصلحة المجتمع؛ أقول ذلــك وأعرف أننا كمواطنين عــرب ما انفكت مؤسســات الدولة تســتعدينا منذ يومهــا الأول، وتحاول إقصاءنا مــرّة، وابتلاعنا حيناً وتفتيتنا أحياناً، ولن ننتصر على هذه السياسات بالنضال في ســاحة البرلمان لوحــده؛ لكنني أجــزم أن نجاحنا في الانتخابات الأخيرة بإيصال خمســة عشــر نائبــاً لمقاعد الكنيســت، قد زوّدنــا، كمجتمــع يخــوض صراعاته في عدة جبهات، بقوة كبيرة نجحت بشــكل نســبي وملموس بالوقــوف أمام سياســات القمــع والاضطهــا­د، ومنعت إمكانيــة أن تكون أوضاعنا في عدة ميادين حياتية أســوأ وأخطــر. ولا يمكن أن نفهــم ظاهرة اللهــاث وراء الصوت العربي العادي والحــر، بخلاف ظاهرة احتــواء المخاتير والأعــوان القديمــة الجديــدة، إلا مــن باب استشــعار الأحزاب الصهيونيــ­ة وإقرارها بمدى قوة مجتمعنا الكامنة واستيعابهم لاحتمالات تأثيرنا السياسي هنا وأمام العالم. أنا ســأصوّت هذه المرة أيضاً، ولا أفعل ذلك بســبب إيماني «بكرم» الديمقراطي­ة فحســب، ولا كي أسقط اليمين بضربة قاضية، ولكن، ببســاطة، ســأصوّت كي أغــرس، كما قلت في الماضي، ســنبلتي في صدر قدري، مؤمنــاً بأن قليلًا من الإصرار والعمــل خير من نهر تنظير، وأجــدى من قناطير رومانسية طاهرة وصاع كسل؛ ســأزرع تلك السنبلة، وأنا أتذكــر نصيحة الحكيم بألا أكتفي بلعن الظلام بل عســاني أضئ شمعة.

لا نعــرف ماذا تخبئ لنا الأيام هذه المرة، لكنني أتمنى ألا يقف الأب منا، في الرابع والعشرين من آذار، أمام طيف ابنه في مرآة البيت المرتجفة، ويردد وصية تلك الريح المشــمئلة المنســية ويقول له: «لا تخَف. لا تخــف من أزيز الرصاص، التصــق بالتــراب لتنجو! ســننجو ونعلو علــى جبل في الشــمال، ونرجع حين يعود الجنود إلى أهلهم في البعيد» فلنعبر الجســر بســام، ولندَع آذار وادعاً بدون أن تجفله حماقاتنا، ولنترك حساباتنا مع قادة غفلوا، إذا غفلوا، إلى ما بعد ركود المطر وقبل هبوب العاصفة ونزول أول الغبار.

من غير المعقول أن نفقد أملنا بالتأثير في مجريات الحالة السياسية في واحدة من أهم ساحات المواجهة والمقارعة والنضال: في الكنيست

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom