Al-Quds Al-Arabi

بين «أبو غريب» وخاشقجي: اختلف السياق وتماثلت الحال

- ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

■ في إطار تفنيد تقرير الاستخبارا­ت الأمريكية حول جريمة اغتيال الصحافي الســعودي جمال خاشــقجي، وردّ التهمــة عن ولي العهد محمد بن ســلمان، كتب عبد الله المعلمي الســفير والمندوب الدائــم للمملكة العربية الســعودية لدى الأمم المتحدة سلســلة تغريدات؛ لعلّ أطرفهــا، وأهمها دلالــة، تســاؤله التالــي )والترجمة مــن عندنــا(: إذا كانت هــذه )أنّ الأميــر كان على علم بالضرورة، لأنه يســيطر على النظام الاســتخبا­راتي( حجّة مقبولــة، فلماذا لم يقع الرئيــس الأمريكي ونائب الرئيس ووزير الدفاع، تحت طائلة المسؤولية عن جرائم أبو غريب؟

الســياقات مختلفة، بالطبع، بين جرائم ســجن «أبو غريب» وجريمة تصفية وتقطيع أوصال خاشقجي داخل أروقة القنصلية السعودية في اسطنبول؛ وكذلك تختلف طبائع المســاءلة، السياســية والأمنية والاخلاقية، بين التوجيه باستدراج أو اعتقال أو اغتيال مواطن معارض صحافي، أو العلم بالخطة مسبقاً، كما في حالة بن سلمان حسب التقرير الاستخبارا­تي الأمريكي؛ وبين المسؤولية المباشــرة عن ســلوكيات بربرية في التعذيب والتنكيل الجسدي مارســها جنود أمريكيون ولكن لم يأمر بها، أو يطلع عليها مسبقاً، أمثال جورج بوش الابن وديك شيني ودونالد رمسفيلد.

المســؤولي­ة المعنويــة، فــي المقابل، ليســت متماثلة ومتقاطعة ومتقاربــة في كثير من عناصرها، فحســب؛ بل ثمة مقدار من المســاءلة أشــدّ وأكبر يطال المسؤولين الأمريكيين الثلاثــة، بالنظر إلى القيــود القانونية التي يتوجب أن يلتزم بها أبناء قوة عظمى تزعم قيادة العالم على أصعــدة الديمقراطي­ة وحقوق الإنســان والقانون الدولــي والمواثيــ­ق الخاصة بالتزامات ســلطة احتلال عســكرية تجاه أهل البلد الخاضع للاحتلال. وقد تكون تغريــدة المعلمي رمية مــن غير رامٍ، لجهــة اللجوء إلى المقارنــة مــع جرائم جيش احتــال كان ويظــلّ حامي حمــى المملكة، لكنها فــي الآن ذاته دخلــت ضمن مغزى راهن أوســع، حتى إذا لم يتقصد الســفير إدخالها فيه: موقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة من مســائل التعذيب

والاعتقال والتحقيق و«الســجون الطائرة» وانتهاكات حقوق الإنسان من جهة أولى؛ والعداء المستحكم المزمن بين الولايات المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، من جهة ثانية.

والحال أنّ الأمر طُرح مؤخراً، ومجدداً، بعد أن لوحظ تحاشــي الرئيس الأمريكــي الجديد جو بايــدن إلغاء قرارات سلفه ترامب الخاصة بالمحكمة، كما فعل بالنسبة إلى إجراءات عديدة داخلية مثل تأشيرات مواطني عدد من البلدان «المســلمة» والمقاربة المرنة لمعاملات اللجوء، وأخرى خارجيــة مثل العودة إلى اتفــاق باريس حول المناخ. ومن المعروف أنّ ترامب كان، في حزيران )يونيو( الســنة الماضية، قد فرض عقوبات على موظفي المحكمة الجنائيــة الذيــن يتولــون التحقيق فــي جرائم حرب يُحتمــل أن الجيــش الأمريكي ارتكبها في أفغانســتا­ن. بالإضافة إلى أنّ واشنطن ليست في عداد الدول الموقّعة على معاهدة تأســيس المحكمة، ولا تعترف تالياً بولايتها القانونية على المواطنين الأمريكيين.

كذلــك فإنّ الملفّ فُتــح مؤخراً بعد أن لجــأت أكثر من 80 منظمــة غير حكومية، حقوقية وإنســانية ومناهضة للتعذيب وأكاديمية، أمريكيــة وعالمية، إلى توجيه نداء يحــثّ الرئيــس الأمريكي على طــيّ إجــراءات ترامب العقابية، وكذلك تجاهــل الأصوات الجديدة التي تعالت مؤخراً لفرض المزيد مــن القيود على المحكمة؛ الأمر الذي لا يُلحق الأذى بالعاملين فيها وحدهم، بل يشــمل جميع الجهات والمنظمــا­ت التي تتعاون معهــا. وغير خافٍ أنّ المحكمــة تعرضت، مؤخــراً، إلى هجمة شرســة إضافية من جانب دولة الاحتلال الإســرائي­لي، وسارعت بعض مجموعــات الضغــط الصهيونيــ­ة إلى اتهــام المحكمة بـ«النفاق» و«العداء للســامية» بعــد أن أعلنت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنســودا العــزم على فتح تحقيق رســمي في الأراضي الفلســطين­ية المحتلة بصدد جرائم مفترضة خلال الحرب الإســرائي­لية علــى قطاع غزّة في عام 2014.

بنســودا، من جانبهــا، خرجت عن صمتهــا مؤخراً وصرّحت بأنّ الوقت قــد حان كي تعيد الولايات المتحدة ترتيــب علاقتها مــع المحكمــة، موضحــة أنّ العقوبات التي فرضهــا ترامب تخصّ عادة «كبــار منتهكي حقوق الإنســان، وليس المهنيين والموظفــن المدنيين الدوليين المنخرطين في مناهضة الحصانة ضدّ الجرائم الفظيعة». وصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية توجهت بالسؤال إلى وزارة الخارجية الأمريكية، فأجابت هذه أنّ الوزارة بصــدد «مراجعة» خطواتها المقبلة بهــذا الصدد. لا أحد، مع ذلك، يتوجب أن يتناســى حقيقة أنّ الموقف الأمريكي العدائــي من قانون روما، الذي أتاح إنشــاء المحكمة في ســنة 2002، يتجــاوز ترامب وإجراءاته لأنّ واشــنطن رفضت المصادقة على القانــون أو قبول صيغة المحكمة؛ على نقيض 123 دولة وافقت على صلاحياتها في مختلف قارّات العالم.

الرئيس الأســبق باراك أوباما، الذي عمل بايدن نائباً له خلال رئاستين كما يصحّ التذكير، أغدق على مواطنيه سلســلة وعود انتخابية حول إغلاق سجن غوانتانامو، ونشــر ما يُســمّى «مذكرات التعذيب» الصادرة عن كبار مسؤولي وزارة العدل والبنتاغون في إدارة بوش الابن السابقة. لكنّ الشــهور مرّت، ومثلها انقضت السنوات، وذهبت وعــود أوباما أدراج الريــاح، وأصرّ أوّل رئيس أفــرو ـ أمريكي فــي تاريخ الولايات المتحــدة على عدم الذهــاب خطوة واحدة أبعد في هذه الملفات: ســواء في رفض تعيين قاض مســتقلّ للتحقيق في المســؤولي­ة عن «مذكرات التعذيــب» تلك، أو التــذرّع بضرورة الحفاظ على «مبدأ الإجماع» في مســائل الأمن القومي الأمريكي؛ الأمر الذي تســاوى فيه مع معظم الرؤســاء الأمريكيين الســابقين، وبوش الابن على رأســهم، ويتســاوى فيه بايدن اليوم، بعد سلفه ترامب.

وبات جليــاً أنّ تراجع أوباما عن وعود أخرى، بتأمين شفافية المعلومات حول سجن «أبو غريب» إنما تمّ بضغط مباشر من رهط الجنرالات المتشددين في البنتاغون، من جهة أولى؛ والحملة الشعواء المتواصلة التي شنّها نائب الرئيس الســابق شــيني، واحتضنتها مختلف وسائل الإعلام الأمريكية بحمــاس بالغ، من جهــة ثانية. وفي غمرة هذا كله، لا ينبغي للمرء أن ينسى حقيقة اصطفاف الحزب الديمقراطي خلف معظم سياسات الرئيس بوش الابن، بصدد غزو أفغانستان والعراق وما سُمّي بـ«الحملة على الإرهاب»؛ بما في ذلك التواطؤ على اســتخدام تقنيات التعذيب، والإبقــاء على معتقل غوانتانامو، و«السجون الطائرة» وسواها.

وبالعودة إلى فظائع ســجن أبــو غريب، كانت مجلة «نيويوركر» الأمريكية، في أيار )مايو( 2004، على موقعها الإلكترونـ­ـي ثمّ في الطبعــة الورقية لاحقاً، قد نشــرت تحقيقاً مذهلاً للصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش برهن فيه أنّ انفضاح أخبار الهمجية الأمريكية في سجن أبو غريب )كمــا كانت قد ترددت قبلئــذ، مدعمة ببعض الصور الأولى، في البرنامــج الإخباري ‪Minutes 60‬ ، على قنــاة CBS؛) هــي الفصل الأوّل مــن مجلّد خزي رهيب، أشدّ مقتاً وبشاعة وشناعة. وأمّا في ناظر العالم، المراقب لما مارسته أمريكا في أفغانستان قبل العراق، فإنّ تلك الهمجية كانت تتجاوز السياســات الأمنية، لتضرب بجذورها عميقاً في باطــن ثقافة العنف، ونزعة التفوّق، وتحقيــر الآخر، وامتهان النفس الإنســاني­ة، وشــهوة الاستعباد...

الصــات غير منقطعــة، إذن، بين فظائع ســجن أبو غريــب، التي ضربت فــي الهمجية كلّ مقيــاس متخيَّل؛ وفظائع التعذيب في زنازين التحقيق الأمريكية )التي تمّ تطبيق طرائقها بموجب مذكرات إدارية التي كتبها أمثال جون يو، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا والمتعاقد مع وزارة العدل، وتضمنت تزويد المحققين بالمسـّـوغات القانونيــ­ة للالتفــاف على اتفاقية جنيــف حول تحريم التعذيب(؛ وفظائع القنصلية الســعودية في اسطنبول، حيث تمّ تقطيع جســد الصحافي السعودي خاشقجي، وإخفاء جثته حتى الساعة.

فلا يفرحــنّ الســفير المعلمي باســتعادة ذاكرة «أبو غريب» لإفحام الإدارة الأمريكيــ­ة، فالحال متماثلة حتى إذا تباينت السياقات في قليل أو كثير!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom