Al-Quds Al-Arabi

قناة «المحور»: إلى الأمام يا «روميل»!

-

سليم عزوز

لا أعتمــد على الذاكرة فــي النقل الآن، فأمامي الكتاب الــذي أقتبس منه هذه الواقعة!

يروي محمد حســنين هيكل في كتابه «بــن الصحافة والسياســة» الحوار الذي دار بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر، بســبب رغبة الرئيس في تأميم الصحف التــي كان يملكها أفراد، لتــؤول ملكيتها للتنظيم السياســي الحاكم، وبطبيعــة الأشــياء لم يطلق هيــكل على ما جــرى الوصف الشــائع الآن وهو «التأميم» فالإجمــاع يكاد يكون منعقداً على أنه صاحب الاســم المضلل للقانون الذي بمقتضاه تم الاستيلاء على هذه الصحف، وهو قانون «تنظيم الصحافة»!

وليس هذا موضوعنا، فعبد الناصر اســتدعى هيــكل لمنزله وتحدث معه عن أهمية الإجراء الذي سيقدم عليه «فلا بديل عن سيطرة المجتمع على وسائل المال والإنتاج، ولا أستطيع عقلاً ولا عدلاً أن أفرض سيطرة المجتمع على الاقتصاد، ثم أترك لمجموعة من الأفراد أن يسيطروا على الإعلام».

وليس هذا هو الموضوع أيضاً، فما يعنينا هنا، هو ما أضافه جمال عبد الناصر بعد الفقرة السابقة، وبدا رداً على ما قد يتردد عن المبرر لانتزاع هذه الصحف من أصحابها، رغم أنهــا موالية له تماماً، ويتنافس أصحابها في ما بينهم في التقرب إليه بالنوافل، فقال: «...إنهم لا يســيطرون الآن عمليــا لأن الثورة قوية، وذلك مجرد خوف، وأنا لا أثق في خائف لا سيما إذا تغيرت الظروف...».

وهو كلام تذكرته، ثم عــدت لكتاب هيكل لنقله، عندمــا تم الإعلان في نهاية الأســبوع الماضي عن وضع أهل الحكم أيديهم على قناة «المحور» المملوكة لرجل الأعمال القريب من الســلطة، وكل سلطة، حسن راتب، وهو ما توقعناه من قبل، وأكدنا أن قناة «صدى البلد» ســتكون الأخيرة في هذا المسلســل. وبالفعل فبعد تدخل الأجهــزة الأمنية وفرض شــراكة مع أحمد بهجت على قنــاة «دريم» قوة واقتــداراُ، بعد أن آلت ملكية قناة «الحياة» لهذه الأجهزة، بعد انتزاعها من المالك «الصوري» لها السيد البدوي شــحاتة، ولم تعد سوى قناة «صدى البلد» وكان قد ســبق هذا وضع اليد على قنــاة «أون تي في» المملوكــة لرجل الأعمال نجيب ســاويرس، وقناة «النهار» المملوكة للأخوين «الكحكي» هــذا فضلاً عن قنوات أخرى تأسست بملاك صوريين، مثل «سي بي سي» ومن الواضح أنها منذ البداية كانت مملوكة لهذا «اللهو الخفي» الذي وضع يده على كامل الفضائيات، فلم يتبق منها ســوى «صدى البلد» وكامل الصحف الخاصة الكبرى فلم يتبق منها سوى «الشروق» و»المصري اليوم»!

الاستدعاء القسري

وإذا كان الناصريون في بداية الانقلاب العسكري أرادوا أن يلحقوا السيسي بجمال عبد الناصر، وكتبت مبكراً مقالاً حمل عنوان «الاســتدعا­ء القسري لعبد الناصر» فإن السيسي لم يدع وصلاً بعبد الناصر، وقد ذهبت بعيداً عندما دخلت في تحد مع القوم في أن يذكر السيسي ماذا يمثل له الرئيس خالد الذكر، وكسبت هذا التحدي، وبعد أكثر من عام طرحت لميس الحديدي أمامه اســم عبد الناصر، واعتقدت أنه ســيصول ويجول في الإجابة على ســؤالها، لكنــه تهرب، والمرة الوحيدة التي ذكر فيها الرئيس الأســبق على طرف لسانه، كانت وهو يقول إنه كان محظوظاً بإعلامه. وهذا هو بيت القصيد!

فيبدو لي أنه لم يقرأ في سيرة عبد الناصر سوى هذا الفصل الخاص بعلاقته بالصحافة، فهل تلا أمامــه هيكل، وقد كان مقرباً منه، هذا الحديث الذي دار بينه وبين عبد الناصر؟ لا ســيما مقولته إنه لا يثق فــي خائف، وأن الحاصل الآن هو أن الثورة قويــة، وقد يتغيرون بتغير الظروف، فــكان موقفه من رجال الأعمال من جماعة المولاة الذين يســيطرون على الإعلام الخاص، ولم يشــفع لحســن راتــب، أن قناته كما وصفهــا الإعلامي الراحــل حمدي قنديل، بأنهــا قناة «آل البيت الحكومي»؛ وذلك في مذكراته «عشــت مرتين» وغني عن البيان أنها القناة الوحيدة التي حصلت علــى امتياز نقل مؤتمرات الحزب الوطني الحاكم في عهد مبارك وولده جمال!

من لسعته الشــوربة لا يلام إذا نفخ في الزبادي، وإذا كان جمال عبد الناصر تحدث عن نظرته ولاء الخائف من الناحية المنطقية، فإن السيســي قد رأى ذلك صوتاً وصورة، فكل إعلاميــي عهد مبارك انقلبوا عليه بعــد الثورة، ومنهم من ذهــب الى ميــدان التحرير ليتقرب منه زلفــى، وتصرفوا على أنهــم من فجروا الثــورة، وروى بعضهــم المتاعب التي كانــوا يتعرضون لها فــي العهد البائد، وفتحوا الأستوديوه­ات لاستقبال شباب الربيع العربي، وأفتش في هذه القائمة الطويلــة العريضة فلم أجد مذيعاً واحداً التزم بالثبــات على المبدأ، بمن في ذلك توفيق عكاشة، لولا أنه عندما انغمس في دور الثائر بالفطرة، سرب عاملون في قناته صورة له وهو ينحني ويقبل يد صفوت الشريف!

وإذا كانــت قناة «صدى البلد» تأسســت بعــد الثورة، فــإن صاحبها رجل الأعمال، والنائب عن الحزب الحاكم محمــد أبو العينين، تقرب للحكم الإخواني باعــاً، فتقربوا منه ذراعاً، قبل أن يذهب إليهم هرولــة، ويصعد لطائرة الرئيس في زياراته الخارجية، وكان «عربون المحبة» الإطاحة بالصحافي ســعيد شعيب من رئاســة تحرير «صدى البلد» بمجرد فوز الرئيس محمد مرسي، لأن «شعيب» هو صاحب الحوار الشهير مع المرشد العام للجماعة الشيخ مهدي عاكف «طز في مصر»!

أما حســن راتب صاحب «المحور» فقد فتح خط اتصال مع الجماعة يوشك أن يدعي أنه اخواني مؤســس، وأنه بايع حسن البنا على المصحف والمسدس، وفي المنشط والمكره، فحتى أحمد المسلماني أعلن أن والده من قيادات جماعة الإخوان المســلمين، وأذاعوا لمحمد الغيطي، حديثا هاتفياً يخاطب فيه القيادي الإخواني عصام العريان، كما لو كان يخاطب وزيره السابق صفوت الشريف، فقد كان في )قمة( الانسحاق، أو للدقة )منحدر( الانسحاق.

بل إن نشأت الديهي، النبتة مجهولة النشــأة، الذي لم يتعرف عليه المشاهد ســوى بعد الثورة، كان في حديثه عــن الإخوان، وحكمهم يبــدو إخوانيا قبل محمد مرســي، وقد زايد على مستشاري الرئاسة الذين اســتقالوا بعد الإعلان الدســتوري، الذي أصــدره الرئيس مرســي وفجر مظاهرات مــن خصومه في الشــارع، وقد رأى أنهم لم يكونــوا لذلك أهلا لثقة الرئيس، وكأنه يقدم نفســه على أنه الشخص المناسب للمرحلة، وذلك في مقابلة على القناة «التركية» وكان حاضراً معه في الأســتودي­و القطب الاخواني حلمــي الجزار، لكن «الديهي» كان الأكثر دفاعاً منه عن محمد مرسي، وبدا «الجزار» منسجماً مع دفاعه، فكان صمته أكثر من كلامه، ليعطي «الديهي» عــدو الإخوان الآن الفرصة للدفاع بالنيابة عن الجماعة!

ما قال مالك في الخمر

لقد تغيرت الظروف، فشهد السيسي تغير المواقف، ومن ثم فإن لديه مستنداً لــم يكن بيد عبد الناصر، وهــو يقول لهيكل عن ولاء الخائــف، فماذا لو تغيرت الظروف؟!

لم يعش عبد الناصر، حتى يرى تغير الظروف، فقد تغيرت بوفاته، وصدرت كتب ألفها من كانوا مدافعين عن عهده في حياته تقول فيه ما قال مالك في الخمر، وكانت تروي عطش الناس في معرفة ما لم يكن من الممكن معرفته، ورصد صلاح عيســى في كتابه «مثقفون وعســكر» كيف كانت هذه الكتب تنفذ فور صدورها حسب رواية الناشرين له!

والمقطوع به أنــه إذا تغيرت الظروف، فإن هؤلاء الإعلاميين ســيكونون في مقدمة الصفوف، ليس بعد موته )بعد عمر قصير إن شاء الله( وما ضره إذا حدث هذا؟ فماذا يضير الميت ولو تم نبش قبره، ولكن الخوف إذا اهتز حكمه، ومن هنا فهو لا يأمن للإعلام إلا تحت الاشراف المباشر له وأن يكون قبضته، ومن هنا كان وضع اليد على قناة المحور، مع أن صاحبها حسن راتب!

لا نعرف المدفوع في قناة «المحور» ثمناً لها، لكننا قرأنا بياناً لمحمد منظور نائب رئيس ما يسمى بحزب «مســتقبل وطن» وعضو مجلس الشيوخ، يعلن فيه أنه المشــتري وأن ملكية القناة آلت اليه ومن ثم صار هو صاحب القناة الجديد، فمن هو محمد منظور؟!

في البحث تبين أن المذكور رجل أعمال، ولا تشــير عملية البحث عن نشــاطه في السوق، غير أنه في سنة 2015 أســس جمعية «من أجل مصر» واستقال على إثر هذا من عضوية حزب «مســتقبل وطن» ثم عاد اليه بدون سابق اعلان! فهل يمكن لنا أن نقر بسهولة أنه هو المالك فعلا؟ وهل يستطيع أي رجل أعمال مهما بلغ حجم أمواله أن ينفق على قناة فضائية، مع هذا الركود الاقتصادي؟! وإذا كانتت لديه رغبة في الاســتثما­ر في مجال الإعلام، فلماذا يشتري قناة، ويدفع ثمناً لها، وبإمكانه أن يؤسس قناة جديدة؟!

فكرة المالك علــى الورق هذه عمليــة معروفة في الإعلام، فــي حين أن المالك الحقيقي يكون هو «اللهو الخفي» وأحياناً يكون مالكاً معروفاً للجميع، لكنه ليس هو المدون اسمه في السجلات والوثائق الرسمية!

ومهما يكن الأمر فكيف يقال إن المالك حســن راتب بــاع قناة المحور بالكامل، لشــخص «منظور» وأن منظور اشترى القناة بالكامل، في حين أن اتحاد الإذاعة والتلفزيون يملك في «المحور» نسبة 15 في المئة، وهي النسبة التي وصفها حمدي قنديل في مذكراته، بمسمار جحا، الذي وضعه صفوت الشريف في القناة كشرط للموافقة علــى الترخيص لها، فهل باع راتب القناة بالمســمار؟ ومن يســأل عن حقوق الاتحاد المهدورة؟! فمن الواضح أن المشــتري الحقيقي هو الســلطة ومن هنــا تعاملت على أن حصة اتحاد الإذاعة والتلفزيــ­ون تخصها، بيد أنها لا تنتبه هنا أن الأمر قد لا يمر في سلام فالمحور، تذكرنا بدول المحور التي حاربت الحلفاء فــي الحرب العالمية الثانية، وانتهى الأمر بهزيمة دول المحور، وتفكك هذا الحلف، الذي كان بقيادة الألماني «إرفين روميل» الذي رأى فيه المصريون أنه المخلص من الاحتلال الإنكليزي، وكان رهانهم على اســتبدال احتلال باحتلال، فهتفوا: «إلى الأمام يا روميل» لكن رهانهم كان خاسراً وهُزم «روميل»! بشرة خير!

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom