Al-Quds Al-Arabi

الفرنسي جول فيرن: الخيال العلمي ومستقبل البشرية

-

■ يمثــل الخيــال العلمي جــزءاً أساســياً في عالمي الأدب والســينما فــي الوقــت الحاضــر، بل إن أشــهر الأفــام الســينمائ­ية حاليا تنتمــي إليه. لكــن هذا يعد ظاهرة حديثة نســبيا، فلم يدخل الخيال العلمي الأدب الحديث بشــكل جدي، سوى في أواسط القرن التاسع عشــر، على يد الروائي والكاتب المســرحي الفرنســي جــول فيــرن، لكــن متابعة مســيرة هــذا الكاتــب التي أوصلته إلى الصف الأول من الأدباء الفرنســيي­ن، تمثل دراســة متعمقة للتطــورات التي طرأت في فرنســا من النواحي الاقتصادية والعلمية والسياســي­ة والثقافية. ويعتبــر إنتاجــه الأدبــي، الــذي بلــغ حوالي الســتين رواية، فــي الوقت الحاضر ثاني أكثــر الأعمال ترجمة إلى اللغــات الأخرى فــي العالم بعــد البريطانية أجاثا كريستي، وقبل البريطاني وليم شكسبير.

ولد جول فيرن عام 1828 في مدينة «نانت» الفرنسية لعائلــة ميســورة، حيــث كان والــده محاميــا ناجحا. وقد وفّــر والداه له أفضل تعليم ممكن في فرنســا تلك الفترة، على أمــل أن يكون محاميا كوالــده. وأدى ذلك إلى اطلاع فيرن على أشــهر الأعمال الأدبية في عصره، لاسيما أعمال الكاتب والشاعر الفرنسي فكتور هوغو، التــي تأثــر بها، وســرعان ما حــاول الكتابــة في فترة المراهقة لروايات طويلة مشابهة لأعمال هوغو. لكنه لم يهمل دراســته لئلا يخيب آمال والده، فأنهى الدراســة الثانوية وانتقل إلى باريس لإكمال دراســته الجامعية فــي القانون، لكن هــذا لم يمنعــه من المحاولــة الجادة لتحقيــق أحلامه، حيث انكــب على الكتابــة، كما نجح عن طريق معــارف عائلة والدته في اختراق الأوســاط الأدبيــة في باريس، التي كانت فــي تلك الفترة عاصمة الثقافة الأوروبية. وبالإضافة إلى جديته في دراســته وكتاباتــه الأدبية المســتمرة، فقــد انكب علــى الاطلاع على آخر المســتجدا­ت العلميــة والثقافية، فــي فترة لم يكــن فيها التلفزيــو­ن والراديــو والإنترنــ­ت موجودة، وكانت الكتب والصحف الوســيلة الوحيــدة لمعرفة ما يــدور في العالم. وكانت الصحف الفرنســية في بداية القرن التاسع عشــر محدودة الانتشار، بسبب تكلفتها العالية، وانتشار الفقر والأمية.

الثورة الصناعية وعصر المستعمرات

لكــن القرن التاســع عشــر كان كذلــك قــرن الثورة الصناعيــة والاختراعـ­ـات، وترســخ لــدى الكثيريــن الاعتقاد بأن التكنولوجي­ا لا حدود لها، وأنها ســتحقق كل شــيء. وكان ذلــك القرن كذلك عصر المســتعمر­ات وانتشــار التعليــم، وظهــور طبقــة ميســورة ومهتمــة بالثقافــة العامــة، مــا جعل الصحــف تزداد انتشــارا تدريجيا لاســيما بعد عام 1836، عندما أخذت الصحف الفرنسية بنشر الإعلانات التي قللت من تكلفتها كثيرا. وأصبحت الصحف كذلك وسيلة للإنتاج الأدبي، حيث أخذت تنشــر القصص على شــكل أجزاء متسلســلة، وأصبحت أحد وســائل النشر لكبار الأدباء في أوروبا مثــل الكاتــب الروســي دستويفســك­ي. وكان للتطور التكنولوجي أثر بالغ في زيادة شعبية الصحف، حيث ظهــر التلغــراف التجاري عــام 1837 ما جعــل الأخبار تنتقل بين مختلف أرجاء العالم في أقل من ثانية.

أثناء دراســة فيرن للقانون، اندلعت ثورة عام 1848 في فرنســا التــي أطاحت بالحكــم الملكي، إذ فــر الملك لويس فيليــب بدون مقاومة. ويعتقد مؤرخون أن فيرن تأثــر بمبادئ تلك الثورة، وظهرت بعــد ذلك في إنتاجه الأدبي. وتعرف فيرن عام 1849 على الكاتب الفرنســي ألكساندر دوماس، وابنه الذي كان أديبا معروفا أيضا وأصبح صديقا لهما لاسيما الابن. وساعده الاثنان في عرض إحدى مســرحياته على خشــبة مسرح معروف في باريس، بعــد أن قام دوماس الابن بمراجعتها، لكن بنجــاح محدود عــام 1850. ولم يقتصــر دوماس الابن في تقديم تلك المســاعدة، إذ توســط لتعيين فيرن مديرا لذلك المســرح فــي العام التالــي. وفي عام 1851 نشــر فيرن أولى قصصــه بعنوان رحلة في منطاد في إحدى المجلات الثقافية التــي كان رئيس تحريرها صديقا من منطقته وكان رد فعل القراء جيد. وكان لهذا النجاح أثر بالغ في تحديد اتجاه فيرن في نوع جديد من الأدب، ألا وهو مجال الخيال العلمي، حيث كانت مغامرة شــيقة تميزت بآخر ما توصل إليه العلم في تلك الفترة، وتدور أحداثهــا في إحــدى المناطق البعيدة. وتلقى تشــجيعا على ذلك من دومــاس الأب، الذي كان قد قام بمحاولة غير ناجحة في هذا المجال.

علــى الرغــم مــن إنهائــه دراســة القانــون بنجــاح وحصولــه على رخصــة العمل محاميا، فقــد قرر فيرن التفــرغ للعمل الأدبي، ما أثار حزن والده الذي ألح عليه ترك الكتابــة الأدبية والتفرغ للمحامــاة، إلى درجة أنه عرض عليــه أن يحل محله في مكتــب المحاماة الخاص بــه، لكن بدون جدوى. لكن ما أثر فيــه كان امرأة حيث تــزوج عام 1857 من أم لطفلين، ما زاد من أعبائه المالية، فاضطــر إلــى العمل فــي البورصــة بكل جهــده لإعالة عائلته، بدون أن يمنعه ذلك من الكتابة الأدبية، فقد كان يكتــب في الفجر قبــل ذهابه إلى العمــل، ويكمل العمل بعــد عودته إلى المنزل، كلما ســمح لــه الوقت. وتعرف فــي تلك الفترة على أحد مشــاهير المصورين الذي كان كذلك من هــواة المناطيد حيــث كان أول من صور المدن من الجو، وكانت أولى محاولاته تصوير مدينة باريس 1858. وأسس الاثنان عام 1862 جمعية أبحاث الملاحة الجوية، حيث كان فيرن أمينها العام. وفي تلك الســنة التقى كذلك بأحد أشــهر الناشــرين في فرنســا، الذي كان يخطط لإصدار مجلة نصف شــهرية تضم مقالات أدبيــة وثقافية من أرقى المســتويا­ت. وعلى ما يبدو أنه كان يتمتــع بقابلية على الإقنــاع، إذ توصل الاثنان إلى اتفــاق نص على تزويد فيرن روايتين أو ثلاثا للناشــر كل عام مقابل عشــرين ألف فرانك لمدة عشــرين عاما، علــى أن تنشــر كل رواية على شــكل سلســلة في تلك المجلة. ومن غيــر المعروف من كان المســتفيد الأكبر من هــذا الاتفاق، لكن فيرن كان مســتعدا لقبول أي شــيء في تلك اللحظة، بسبب المبلغ المالي الذي لم يستلم مثله ســابقا، ورغبته الشــديدة في الحصول على الشــهرة.

ولهذا الســبب تقبل بكل رحابة صدر التدخل المســتمر والواضــح للناشــر، في تفاصيــل الروايــات التي كان فيــرن يؤلفها. وقــدم فيرن لــه خلال أســبوعين رواية «خمســة أســابيع في منطــاد» التي كانت مســتوحاة من رحلــة صديقه بالمنطاد. ونشــرت تلــك القصة يوم الحادي والثلاثين من كانــون الثاني/ يناير عام 1863. وامتازت تلك الرواية بكل ما اشــتهر به فيرن في كل ما كتبه بعد ذلك، فقد كانــت عن مجموعة من البريطانيي­ن يقومون برحلة استكشافية في أفريقيا على متن منطاد. وكان موضــوع الروايــة مثاليا، حيــث كانت الصحف الفرنســية آنــذاك تعج بالأخبــار عن الاكتشــاف­ات في افريقيا وأصبحت شــغل الكثيرين الشــاغل، ما ســبب نجاحا فوريا وكبيرا للرواية. واســتمر العمل على هذا المنوال، حيث نشــرت الروايات بشــكل متسلســل في الجريدة، وكانت تجمع كذلك على شــكل روايات كاملة قبيل نهاية السنة، وفي ثلاثة أشكال من حيث التكلفة، كي تكون هدايا لأعياد الميلاد. واستمر التعاون السلس

جول فيرن

بين الاثنين، فنشر فيرن أشــهر رواياته مثل «رحلة إلى مركز الأرض» (1864( و«من الأرض إلى القمر» 1865() و«عشــرون ألف فرســخ تحت البحر» (1869( و«حول العالم فــي ثمانين يومــا» (1872( التــي تحولت في ما بعد إلى أفلام ســينمائية شهيرة مثّل فيها أشهر نجوم هوليوود.

عشرون ألف فرسخ تحت البحر

كان لروايــة «عشــرون ألف فرســخ تحــت البحر» أهمية خاصة في العلاقة بين الرجلين، حيث كان بطل الروايــة «الكابــن نيمو» (نيمو كلمــة لاتينية تعني «لا أحد») في النســخة الأولى بولنديــا ينتقم من الروس الذين قتلوا عائلته. لكن الناشــر اعترض لأن ذلك كان ســيعني فقــدان الجمهور الروســي الــذي كان جزءا مهمــا من قــراء روايــات فيرن. ولــم يرق هــذا لفيرن، وبعد جدال بين الاثنين تم الأتفاق على إلغاء جنســية البطل وجنســية ضحايــاه مع إبقاء بقيــة التفاصيل، لكــن العلاقة بين الرجلين تغيرت بســبب هذا الجدال، وأخــذ فيرن يجــادل الناشــر، كلمــا أبــدى اعتراضا بشــكل متزايد. وقد يكون أحد أسباب اعتراض فيرن أن موقفــه عــام 1869 كان مختلفا عن ذلــك الذي كان عليه عندما أبرم الاتفاق مع الناشــر18­62، فقد أصبح شهيرا وفي مستوى مالي أفضل بكثير، وكان الناشر يعتمــد علــى رواياته في مبيعــات المجلة. واســتمرت شــهرة فيرن فــي الازدياد حتــى وصلــت أوجها عام 1872. وعند وفاة الناشر عام 1886 تغير أسلوب فيرن حيــث أخذ ينشــر روايــات ذات طابع كئيب. ووســع من نشــاطه بعد ذلك ودخل عالم السياســة، وأصبح عضــوا فــي بلديــة منطقة قريبــة من باريــس، وحقق الكثيــر من الإصلاحــا­ت فيها، كما عاش ثريا بســبب الروايات التي نشــرها والمســرحي­ات المقتبســة منها حتى توفي عام 1905.

امتــازت روايــات فيرن فــي مجال الخيــال العلمي بالمغامــر­ات الشــيقة التي اشــتركت في عــدة عوامل. وكان العامل الأول دقة التفاصيل الجغرافية والأسس العلمية لأحــداث الرواية، حيث كان فيــرن على اطلاع غير عادي على آخر المســتجدا­ت العلمية. وكان العامل الثانــي أن التكنولوجي­ــا لم تكــن بعيدة جــدا عما كان معروفــا في تلك الفتــرة، ما جعل الروايــات قريبة من المنطق. وجعل هــذا القارئ قادرا على تقبل الخيال في مجــال جديد، علــى عكس القارئ فــي الوقت الحاضر المعتاد على الخيــال العلمي، ما يعطي القابلية للمؤلف علــى إطلاق العنــان لخيالــه، ففي روايــة «من الأرض إلــى القمر» تنتقــل المركبة إلــى القمر عــن طريق مدفع ضخــم في منطقة قريبــة من قاعدة «كيــب كانافارال» التي انطلقت منها رحــات «أبوللو» الأمريكية. وتوقع فيرن انعدام الجاذبية فــي الفضاء وأن درجة الحرارة علــى القمــر منخفضــة جــدا وأن العودة إلــى الأرض ستكون على شكل مركبة تسقط في البحر. وكان عدد المســافري­ن في المركبــة ثلاثة وهنــاك تفاصيل أخرى تجعلها مشابهة لبرنامج «أبوللو»، الذي أنجزته وكالة «ناسا» الأمريكية.

وفي رواية «عشرين ألف فرسخ تحت البحر» اعتمد علــى غواصــة ذات قــدرات هائلــة تدعــى نوتولوس. ولــم تكن غواصة من هــذا النوع موجــودة آنذاك، لكن القــارئ كان قادرا على تخيلها بســبب ظهور الغواصة بشــكل بدائي في تلك الفترة. وأصبح اســم الغواصة «نوتولــوس» مقرونا بالغواصات بســبب روايته تلك، إذ كان اسم أول غواصة نووية أمريكية، وقامت بأول رحلة تحت جليد القطب الشــمالي. أما العامل الثالث، فــكان وقوع أحــداث الروايــات في مناطــق بعيدة في العالــم، ما جعــل الروايــات من أدب الرحــات. وكان هذا عامــا مهما حيث كانت تلك المناطــق البعيدة تثير خيال القارئ في القرن التاســع عشر. وعلى الرغم من خلو الروايات من علامات دينية وسياســية واضحة، فإن فيرن نشــر روايتــن معاديتين لألمانيــا وبريطانيا والولايات المتحدة التي كانت الدول العظمى المنافســة لفرنسا في ذلك الوقت.

لكن ماذا عن توقعات فيرن حول مستقبل البشرية؟ كان قــد كتــب عــام 1863 روايــة «باريــس فــي القرن العشــرين» التــي كتب فيهــا توقعاته عــن باريس عام 1960 لكن الناشــر رفض نشــرها لكونهــا كئيبة، ما قد يــؤذي مبيعــات الروايات. وفقــدت الروايــة حتى تم اكتشــافها من قبل أحد أحفاده عام 1989 وتم نشرها عــام 1994 وكانــت الأكثــر مبيعــا في فرنســا. وتوقع فيرن في الرواية اســتعمال الكهرباء والسيارات ذات محــرك الاحتراق الداخلــي والطرق المعبــدة وقطارات الأنفــاق ومراقبــة الســلطات للمواطــن بالتكنولوج­يا والقطــارا­ت التــي تعمــل علــى المغناطيــ­س وأجهــزة الفاكــس والمصاعــد والكومبيوت­ــر وحتــى الإنترنــت وإنتاج الكهرباء من الريح والسيطرة على الأسلحة عن بعد وانتشار التعليم. لكن كل هذا لم يكن أهم ما توقعه بالنســبة لمصير البشــرية لأنه توقع أيضا أن تنحصر أســاليب الترفيــه علــى الجنــس، وأن يصبــح اهتمام البشر محصورا على المال والتكنولوج­يا بشكل مقرف وإهمــال الثقافة التــام وحتى احتقــار العالم للمثقفين والمفكرين. ولعل فيرن شعر بكل هذه الجوانب السلبية في عصره، فتوقع زيادتها الكبيرة في المستقبل. ٭ باحث ومؤرخ من العراق

 ??  ?? بول لوكاس وبيتر لوري وكرك دوغلاس وجيمس ميسن في فيلم عشرين الف فرسخ تحت البحارعام 1954
بول لوكاس وبيتر لوري وكرك دوغلاس وجيمس ميسن في فيلم عشرين الف فرسخ تحت البحارعام 1954
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom