Al-Quds Al-Arabi

في سيميائية الربيع قديما

- ٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

■ من النصوص القصيرة التي لا أدري أين قرأتها، ولا أين ســمعتها، أن متســولا ضريرا كان يجلس في مكان عام ويحمل لافتة كتب عليها: «ساعدوا هذا الأعمى». فمرّ به من يفهم في كيمياء الكلام، وغيّر له النص ليصبح كالتالي: «يأتي الربيع ولا أراه». لم يعط الأديبُ الضريرَ ســمكَة بل أعطاه شَــصا جيدا يصطاد به الســمك. الذين يشعرون بما في هذه الجملة من قسوة هم الذين سخت أياديهم وأكرموا المتسول الضرير؛ هم قوم يقــدرون كم هو قاسٍ أن يأتي الربيع ولا يراه البشــر. الربيع حين يأتي يكون للكون منظر بهيج ورونق تهتز له النفوس وتطرب.. الربيع مشــهد يرى قبل أن يكون شيئا يســمع، أو قل هو طقس بصري قبل أن يكون لحنا في الوجود مختلفا.

لا جدال اليوم فــي الثقافات التي تعرف قــدوم الربيع في علاماته، ولا في أوقاته فالربيــع من جهة الأرصاد الجوية هــو نصف فصل يقع بين الشتاء والصيف فهو اعتدال بين صقيع الأول وحَمارة قيظ الثاني. الربيع بهذا الاعتبار، حرارة لطيفة أو برد ظريف بالنســبة إلى حرارة الجســد. أجســادنا هي التي تدرك علامات الربيــع وتتعامل معه على أنه شيء يناسبها. الإحســاس بالطقس هو العلامة الأولى التي تحدد الفصول، لكن هذا الإحســاس هــو عابر وليس فصليــا، فمتى يصبح الإحساس بالطقس علامة ثابتة؟ يكون ذلك في حين يمتد ذلك الإحساس بالطقس على أشهر يصبح عندئذ إحساسا بالفصل. إدراك الفصول عبر الحرارة هو في الحقيقة علامة طبيعية يكون الجســد الحساس واسطة لها، غير أن ذلك الإحساس يطول ويمتد على أيام أو بضعة أشهر.

العلامــات الحرارية للربيــع، وهي علامــات تــدرك بالقياس إلى حرارتين مركزتــن وتعني من الناحية الإدراكية شــيئا مهما يتمثل في تحديــد التصور الذاتي للجســم ‪Body self-concept‬ هذا التصور الذي يبنيه المرء بناء نفســيا حين يقيس الدرجــة التي يتحمل بها ذلك الجسم درجات البرودة ودرجات الحرارة. والتصور الذاتي للجسم هو الذي يصنع لنا أمزجــة خاصة بالفصول، اعتمادا على تأثرها بالحرارة أو بالبرودة، وغيرها من العناصر التي تعلق بهذا الشــعور. الشــعور بالدفء حالة من الحالات التي يطلبها الجســد، حين يلوذ إلى الحرارة فرارا من البرودة، والشــعور بالبرودة حالة مــن الحالات التي يطلبها الجســد حين يلوذ إلى البرودة فرارا من الحرارة، بواســطة التكييف مثلا؛ لكن الشــعور بعــدم الحاجة لا إلى ذاك ولا إلى هــذا هو حالة من حالات التفاعل الذاتي للجسم بالاكتفاء بالحرارة المعتدلة للطقس، هذا حال التصور الذاتي للجســم في فصل الربيع، بالإضافة إلى العلامات الجسدية المتفاعلة إيجابا مع الحرارة في فصل الربيع، فإن إدراك الربيع بالاعتماد على العناصر الطبيعية المصاحبة له، ســواء أكانت مسموعة أم مرئية أم مشمومة، هي ما يمثل حزمة العلامات الأخرى التي تؤثر في إدراك ثقافة معينة للربيع أو في تفاعل الأفراد مع الفصل.

تعرض لنا المادة المعجمية القديمة شــيئا يبــدو لأول وهلة متداخلا حول ما يعرفه العرب القدامى عن الربيع؛ فقد يسميه بعضهم الخريف، وقد يفرق بعضهم الثاني بين ربيعين حســب نوع النبت الذي فيه. فقد جاء في «لسان العرب» أن الربيع هو «الفصل الذي يدرك فيه الثمار وهو الخريف» (لسان العرب )رب ع(8/102(. ومنهم من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأول ويســمى الفصل الذي يتلو الشــتاء وتأتي فيه الكمأة والنور الربيع الثاني» (السابق 103( بل إن أبا حنيفــة يذهب إلى التمييز بين «ربيع المــاء والأمطار وربيع النبات» )السابق(. وقد يرى وغيره أن « الشــتاء كله ربيع عند العرب من أجل النــدى» (ل. ع، 8/103( بل إن الربيع ربيعــان عند بعض الناس «ربيع الشــهور، وربيع الأزمنة، فربيع الشــهور شــهران بعد صفر، أما ربيع الأزمنة فربيعان الربيع الأول وهو الفصل الذي تأتي فيه الكمأة والنور، وهو ربيع الكلأ، والثاني وهو الفصل الذي تدرك فيه الثمار» (السابق(. لن نتوقف عند الترادف بين الفصلين الخريف والربيع فربما كان تشابه العلامات الطبيعية وهــي النبت والثمر والماء، ســببا في الترادف ولا يســتغرب أن يعد الخريف عديلا للشتاء، حتى عند المعاصرين، فقد قال أحد الرسامين الفرنســيي­ن وهو هنري دي تولوز لوتراك: «الخريف هو ربيع الشتاء».

وهذه العلامــات التي تــدرك بالبصر هي التي ارتكــز عليها العرب القدامى في التمييز بين ربيعين، ربيع أول هو فصل الثمار ولعل المقصود بهــا الرطَــب، والثاني فصل الكمــأة وهو فطر بري صحــراوي، ينبت بعد ســقوط المطر ويعرف في مناطق المغرب العربي باســم الترفاس. مــا يجمع العلامتين أنهمــا علامتان طبيعيتان مرتبطتــان بالغذاء. لو اســتعنا بالثنائية التــي اعتمدها كلــود ليفي ســتراوس عند حديثه عن أنثروبولوج­يــا الطعام، وهــي ثنائية الطبيعة/ الثقافــة، قلنا إن سيميائية الربيع منخرطة في نسق من هذا التقابل الذي يجعل الثقافي يحدد بالطبيعي والطبيعي ههنا محدد بالمأكول. ولو استأنســنا أيضا بالمثلث المطبخي، الذي اعتمده ســتراوس حين ميز بين النيء والمطبوخ والفاسد، فإننا نجد في تحديد الربيع اعتمادا على نيء أحدهما، يقبل أن يطبخ على الكمأة، والثاني ثمرة صبور لا يمكن أن تفسد هي التمر، المطر الذي ينضج الثمرة والنبتة هو حدث ســابق كأي حدث طبخ أو إنضاج للطعام. وأن يحدد الربيع الأول بالثمار، يعني أن إنضاج القيظ للثمرة قد فات، وأن الربيع هو فصل الجني أو قطف الناضج، وأن يحدد الربيع الثاني بالكمأة فذلك يعني أن إنبات هذا الطعام البري الشهي بعد المطر، هو مرحلــة من قطفه لإنضاجه بالنار. لا نعتقــد أن في الربيع ما يذهب بالطعام إلى أن يكون فاســدا، فالحلقة مفقودة أو هي في الربيع شــيء لا يمكــن أن يحدث. ســيميائية الربيع ههنا هي ســيميائية البحث عن الطعام، فالفصل فصل نضجه وقطفه، وهو ليس فصلا معســرا، فلا هو شتاء أزمة ولا هو حمارة قيظ.

الســيميائ­ية القديمة للربيــع تعتمد إذن مرئيــات طبيعية تؤكل، أو تؤذن بنضج ما يــؤكل وحتى النور المذكور هنا ليــس مذكورا، إلا لأنه علامة على بدء الإثمار. هناك ســيميائية أخــرى طبيعية للربيع تعتمد على المرئي الجمالي، وتركز على الزهر والخضــرة والروائح الربيعية المميزة، فهي سميائية لا تركز على الغذاء المادي بل على الغذاء الروحي المتفاعــل مع الطبيعية الجميلــة. طبيعة كهذه لا تنطبــق على الطبيعة الصحراويــ­ة، بل علــى طبيعة تكثر فيهــا الخضرة: خضــرة المراعي والأشــجار والغابات، ويكون الماء فيها وفيرا رقراقا، الطبيعة الخصبة تفرض سيميائية للربيع، لا تميل إلى الطعام، بل إلى الانجذاب الجمالي إلى الطبيعة لأن الطعام في تلك الطبيعة المخصبة من تحصيل الحاصل. لهذا الســبب يمكن أن يطلق لفظ الربيع على الــكلأ، وعلى جدول الماء أو النهــر الصغير، وعلى الغيث وعلى «مــا تعتلفه الدواب من الخضر» )لسان العرب8/ 104.)

نجد في «لســان العرب» شــيئا من الانفعال الطبيعي الجيد مع هذا الزمن في الفصــول ولكنه لا يعلله: «وفي حديــث الدعاء: اللهم اجعل القــرآن ربيع قلبي، جعله ربيعا له لأن الإنســان يرتاح قلبه في الربيع من الأزمان، ويميل إليه، ما يدل على حب هذا الفصل أن هناك من يجعل له مســتقرا في الربيع، فمثلما للأغنياء عندنــا اليوم من المصطاف لهم فــي أيامهم المرتبع أو المربع «وهو الموضع الــذي يقام به في زمن الربيع خاصة» (السابق(. يقيمون حيث يكون الخصب عاما كي تأكل شياههم. مرة أخرى تربط سيميائية الربيع بما هو زمان يتطلب مكانا يستقر فيه لعلة بالطعام.

 ??  ?? توفيق قريرة *
توفيق قريرة *

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom