Al-Quds Al-Arabi

قراءة جمالية في ثلاث قصائد قصيرة لعلي جعفر العلاق

- يضعنا الشــاعر هنا أمام تــرف الرؤية وإيقاعاتهـ­ـا التشــكيلي­ة، ليخلق مزاوجة جمالية بين قوله: )رحى= ليجرحا( ليكون ٭ ٭٭ ٭ ٭٭ ناقد من سوريا

يعــد الشــاعر العراقي علــي جعفر العلاق من شعراء الحداثة المؤثرين، الذين أفادوا مــن لغتهم، في تحديــث منظورهم للغــة، مــن خــال أداء شــعري يتميــز بالنضــارة والحيوية. ووفق هذا التصور، فقــد أغنى الشــاعر قصائــده بإيحاءات جمالية تؤكد حداثتها في شــكلها الجمالي وبنيتهــا النصيــة، فهو يعــزف إيقاعاته الشــعرية على لغة مبرأة من الزوائد، كما في قصيدة ليلٌ يماني:

خـديجةُ لم تُشرقْ على البئرِ .. لم تَعُـدْ إلى أهلها يوماً .. شموسٌ بعيدةٌ .. وليلٌ يمانيٌّ يضيءُ

ليجرحـا .. نحن، هنــا، أمام أناقــة لغوية طازجة، أشــبه بغصن زيتون طري، أو شمس ندية بعبير الأنوثة وبكارتها )خديجة لم تشرق على البئر(. كما أن إشراق خديجة هنا هو إشــراق الأنثى البتول، التــي تختزن كل شموس الكون في إطلالتها وليلها اليماني المضيء، هــي الأنثى الخالقــة بتجلياتها المفتوحة على ماء البئر المشرق بإشعاعاته الندية البراقــة، والقارئ هنــا ليس أمام تشــكيل بليغ في إصابة الدلالات العميقة، بل هو أمام أنثى تهطل على الكون بفيوضها الصوفية التي تشبه الماء الزلال.

والواقــع أن حيوية اللغة وشــعريتها لا تنبثــق مــن ناحيــة الصــور، وحيــز الــدلالات الرهيفــة فقط، إنمــا من خلال اللقطات التصويرية، التي تشرق وتسمو وترتقي في بنائها وهندســتها التشكيلية، وكأن الشــاعر يخلــق، عبــر إيقاعيــة الكلمــة ودلالاتها، ســحر التناغم اللغوي والانســجا­م التقفوي، ما يدلــل على أناقة لغوية ترفع درجة الحساسية الجمالية في النص الشعري، كما في قوله:

ونحن يتامـاها الرعـاةُ.. ونحـنُ من يُطيـحُ بهـم مـاضٍ

وتمضغُـهم رحـى.. النص كتلــة تفاعلية معززة بالوعي الفني المحكم، أي أن ثمة قيمة جمالية مكتسبة من خلال الوعي التشكيلي، يحلق من خلالها الشاعر إلى شعرية لغوية، قد تبدو للقارئ بديهيــة، أو روتينيــة بينما هــي تتضمن قيمة شعريةعالية: )ونحن من يطيح بهم ماضٍ// وتمضغهم رحى(، فاللذة الجمالية في قوله: )يطيح بهم ماضٍ( ليســت سهلة المنال لمن لا يدرك فنية الشعر ولعبة اللغة، في أناقة التشــكيل وحساسيته الجمالية، ليأتــي قوله )وتمضغهم رحى( متناســباً مع قوله الشعري الســابق: )وليل يماني يضــيء.. ليجرحــا(. وهكــذا يتحقيــق التناسب الإيقاعي الهادئ بلغته الرصينة التي تخفي دهشــة جمالية في الإسناد من جهة، ودهشــة جمالية في هــذا التوليف الفني المتدفق الذي يصل قمة الاســتثار­ة والإمتــاع. وهذا دليل علــى أن أناقة اللغة عند العلاق لا تنفصل عن رصانة تلك اللغة وهدوئها الذي يبعث اللــذة الجمالية في المتلقي.

والمثيــر في لغة الشــعر عنــد العلاق، صياغة الأســئلة التأملية التي توسع من فضــاء القصيدة بجدة ما تشــير إليه من رؤى ودلالات، ومــا تفتحــه فــي مخيلة المتلقي من استقطاب للمعاني المدهشة. في قصيدة «طفولة عابثة» يقول الشاعر: أيّ طفلينِ عابثَـينِ .. ملأنا بالندى كلّ حفرةٍ وانطلقنا في حقولِ الشّـمّامِ: نلحق شـمساً ما تزالُ طريةً ثم نرمي في الهواءِ شباكَنا أمرايا كانتِ الطيرُ حينَهـا، أم مياهـا؟ إن الشعرية، هنا، ليست فقــط شــعرية التركيــب والإسناد في رسم الدلالات والرؤى، إنمــا نحن أمام شــعرية يانعة، تشــبه الرفيــف، أو النســيم الرقيــق عندمــا يلامس أرواحنا، فهذا التســاؤل الشــاعري يفتح الباب على أشده لنعيش اللحظة الشعرية مجسدة في كلمات مبهرة في ملمســها وصداها الجمالي: )أي طفلين عابثين ملأنا بالنــدى كل حفرةٍ/ وانطلقنا في حقول الشــمام[، هنا، يحيا الشــاعر )الذكــرى( حيــاة ماضوية رقيقــة يبثها فــي لحظتها الطفوليــة الطازجة، لنعيش صفاء الطفولة وشــقاوتها الجميلة، وهذه الشــعرية لا يســتطيعها بهــذه الهدهدة والتناغم، إلا شــاعر جمالي يمتلك الرؤية العميقــة بــكل تحولاتهــا. وهذا مــا عبّر عنه بهذه الصــورة المترفــة التي تفيض بشــعريتها: )نلحق شمساً ماتزال طرية(، ففــي قوله: )ماتزال طريــة( قمة التحليق البعيــد فــي الدلالة علــى حالــة البكور الشــعري، ونداوة الشــمس في صباحها الرقيــق قبــل بــزوغ الشــمس، وتكاثف أشــعتها الحارقة، ثم إحداث هزة جمالية في المشهد الكله بتســاؤله المثير: )أمرايا كانتِ الطيــرُ حينهــا أم مياهــا(، وهكذا يدهشــنا العلاق في تنقلاته الشــعر، من قيمة فنية إلــى أخرى، مؤكداً أنه شــاعر جمالي بفكر جمالي وحساســية عالية في توليف الكلمات والجمــل

والصــور، التــي تلتقــط اللحظــات الرومانسية وتعيد تشــكيلها بكل حيوية واتقاد.

والمثير حقــاً أن اللغة الشــعرية، عند العلاق، تحقــق إيقاعها الجمالي من خلال دهشــة الذكريات التي يبثهــا في مفاصل القصيدة، مفعمة بنداوة لحظتها المعيشــة ومكتســبها الجمالي، وهذا كله قيمة فنية مضافة، تجعل من نص الشــاعر فيضاً من العذوبة والرقة والجمال:

كم جميلاً كان الضّحى.. أيُّ طفـلٍ ينزل النهرَ عـاريـاً .. ثمً يمضي لسـماءٍ

بعيـدةٍ لا يراهـا .. إن القــارئ هنا ليس أمام شــكل لغوي شعري فحسب، ويرســم بريشة الذكرى معالــم أزمنة قد مضت، وإنمــا يحيا اللغة الشــعرية مثل طفل، فتفيــض بعذوبتها وحساسيتها المرهفة، فكم جميل، إبداعياً، ربط الطفولة باللغة وربط اللغة بالطفولة عبر هذه التســاؤلا­ت التــي تلمس الكون بإحســاس الطفولة وتلقائيتها: )أي طفل ينزل النهر عارياً ثم يمضي لســماء بعيدة لا يراها(، وكأن هــذا الحلم الغض ما يزال يراوده ليحياه عبر بكارة اللغة وحيويتها التي تطل على عوالــم، لا يمكن رؤيتها أو إدراكها بســهولة. وبهذا السحر الجمالي يأخذنا الشــاعر علي جعفــر العلاق إلى عوالمه الشعرية مندهشين بطزاجة اللحظة وحيوية التجربة التي تفيض على القارئ بجمالياتها ورؤاها النصية المفتوحة.

ومن التحولات الجمالية التي تشهدها بنيــة القصيــدة، عنــد العــاق، أنــك تستشعر قيمة اللغة الشعرية وبكارتها من خلال المشاهد المدهشة التي تجعل لعبة الشعر، في النصّ، لعبة متكاملة جمالياً كما في قصيدة لماذا:

التســاؤل هنا يفضي إلى عتاب شــديد يؤسسه الشــاعر على إحســاس مغترب مأزوم، ليعيش الطفولة في اغترابه حقيقة لا وهمــاً، ويعيش الحلم حقيقــة طفولية مؤكدة، وليســت مجرد خــراب وهجرات متتابعــة وأحــزان. وبهذه الحساســية ينقلنا الشاعر نقلات شعرية مؤسسة على التنامي والحــراك والاســتثا­رة، ليعيش طفولتــه عبر اللغــة تارة، وعبــر الصور الرومانسية تارة أخرى، كما يعيش غربته، أو اغترابه من خلال الذكرى واســترجاع الأزمنة الماضوية، وعبــر الهجرة والصور المؤثرة: كنتَ أكبرَ من وطـنٍ .. فلمـاذا صغُـرتَ

صغُـرتَ.. فاْصبحتَ أعظـمَ

من كارثةْ..؟ يلحظ القارئ هنا اغتراب الشــاعر في لغته الشــعرية وإحساسه المتوتر بالعالم المحيــط ليخلــق معادلتــه الانزياحيـ­ـة الصادمــة )فلمــاذا صغــرتَ صغــرتَ فأصبحت أعظم مــن كارثة(، وهكذا يثيرنا العلاق بلغتــه التي تفيض علــى القارئ بحساســيته­ا العالية وطاقتهــا الخلاقة، وكأنه يعبر عن أســاه عبــر لغة انزياحية جماليــة حافلــة بالذكرى والحنــن تارة واسترجاع اللحظات الماضية تارة أخرى.

تتمثل شــعرية علــي جعفرالعلاق في اللغة ومؤولاتها الثرية، التي تجعل القارئ يســبح في فضاءاتهــا مزهواً بدهشــتها الإســنادي­ة، وبــكارة ما تبثــه من دلالات على المســتوى الفني والجمالي. وتلك هي ميزة النصوص الشــعرية، المنفتحة على احتمالات التأويل التي لا يمكن استنفادها في قراءة واحدة.

 ??  ?? علي جعفر العلاق
ملأتَ الهـواءَ أنـاشـيدَ ميّـتـةً.. ثُـــمّ عطّرْتَ أيامَنا بالجثثْ.. من خرابٍ إلى هجرتينِ..
علي جعفر العلاق ملأتَ الهـواءَ أنـاشـيدَ ميّـتـةً.. ثُـــمّ عطّرْتَ أيامَنا بالجثثْ.. من خرابٍ إلى هجرتينِ..

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom