Al-Quds Al-Arabi

القصة كأداة بحث في مجموعة «أجري بين ضفتين كنهر»

- *

يغلــب علــى ظنــي، أن المدونــة الســردية تغتني بــذات الكاتــب كحمولة، تمتد لعناصر الســرد، شــخوصا، أحداثا، مكانا وزمانا... فتلونها بلمســات تخييلية خاصــة، حتــى لا يبقــى التخييــل جافــا ومنحبســا، ضمن مقاسات نمطية ورتيبة. خطــرت لي هــذه الفكــرة، وأنا أضــع اليد علــى المؤلــف القصصي المعنــون بـ»أجري بــن ضفتــن كنهر» للقــاص أحمد شــكر، الصادر مؤخرا، الذي يحتوي على عناوين )الحياة، كراس، الليالي، مقاصل، ســيرة، آش هذا؟ حياة كاملــة، الموت، كفن عام...( تحيل على مشــاهد بين الحياة والموت. إنه تأمــل قصصــي ـ إن صــح القــول ـ تتحول معــه القصــة إلــى أداة بحث، تثمــر أفكارا وتساؤلات لا تنتهي، وهي تتوغل في مادة الحكي التي تكون فــي الغالب مجرد تعلة، لتمرير حالة أو موقف بكيفية غير تقريرية.

يســتحضر هذا المؤلــف القصصي، في ســرده، مواضيع متنوعة تقيــم بين الحياة والموت. ومن المؤكد أن الكاتب ينتقي الفكرة الســابحة فــي المــكان والزمــان. مما يمنح إمكانيــات للتأمل، في الحيــاة والموت على ضوء المخيال الشعبي واللاوعي الجمعي. هــذا فضــا، عــن الطقــوس والمرجعيــ­ات المتنوعة المغذية لهذه السردية على مستوى المتن. لكن ذلك، يتم تمريره عبر نهر الســرد الــذي يــذوب صرامــة النظريــة، ويوزعها عبــر تقنيــات الســرد، أعني الشــخصيات بــن المكان والزمــان. نقرأ فــي المؤلف قيد الدرس، قصة بعنوان «الحياة» «يأتي الميلاد بدون أن يفهمه أحد. ويأتي الموت بدون أن يفهمه أحد. وبينهما تدرك الكائنات كل شيء الأنشودة المقدسة، الكتاب السادس من المهابهارت­ا

كمــا أن الفكرة التأملية ســرديا، تذوب المعالــم المتعلقــة بالمــكان والزمــان. لهذا، فالقصــص هنــا تحقق عدة انتقــالات على مســتوى الفكــرة، مــن اليومي في شــكله المنســي، والمتروك لقدره إلى سؤال الحياة والموت، وهما يتجادلان على ضوء مداخل الواقــع والوجــود. وبالتالــي، العض على الســؤال الذي تم تقليبه فكريا بدون إقرار: مــاذا تعني هذه الحياة والمــوت؟ بعد عبور أقــوام وحضــارات، نظريــات وأفــكار.. نفتح المؤلف نفســه، على قصــة «كراس»: «لا أثــر اليوم لكلمــات يلفظهــا البحر، ولو كانــت بنكهــات متعددة، أو من مســودات همنغواي ومرفيل وحنا مينة.

إن كان شــيء مهــم فــي ما ســبق، فهو أن رص هــذه الكراســي أصبــح يشــكل حيــاة، ليــس لأنهــا ســاهمت فــي ميلاد رؤى تخييليــة، ولكن أصــا لأنها حقيقية مجسدة على أرض الرمل، وإن كان أقوى الاحتمالات التي استجلتها العين الراعية لهذه الكراسي في ما يأتي من الأيام. إن الأمر له علاقة بشــاب يرص الكراســي علــى حافة المــاء، بحثــا عن زبائــن حالمين وعاشــقين ينفحونه بعــد الإقامة الحلمية، دراهم معدودات .»

مبنى الحكاية

يبــدو لــي، أن هــذا المؤلف يســعى إلى تبليــغ مهمــة مزدوجــة، إقناعنــا بالفكرة، وثانيــا إقناعنا بالســرد، ذاك أن القصص تراوح بين الفكر والســرد القصصي. طبعا فالانفتــا­ح على الفكر يمنــح للقصة عمقها، إذا مــا قــدم بكيفيــة سلســة، عبــر حكاية عارفــة أي تــدرك عناصرهــا ومســاحتها بالدقــة المطلوبــة. آنــذاك يمكــن أن يتحقق

ذاك التــازم أو التــوازي بــن الأفــكار والتقنيــا­ت. وهو المتحصــل هنا، فيتم الانطلاق من معطيات ذات إحالة على الواقع. لكــن الفكرة تخضــع للتحوير على ضوء أنسنة الأشــياء العادية والسفر بها في نهر الحياة، فتتســع الفكرة وتتشــابك مــن الداخــل. لهــذا، فالشــجرة أشــجار، والكرســي كراســي، والحادثــة حوادث.. طبعــا هــذا لا يحجب عنا الوصــف في هذا المؤلــف، إذ تقدم الأشــياء المســرودة، عبر توصيف رمزي موح بتعــدد دلالي إلى حد الاستغراق في الوصف الذي يتم من زوايا عديدة، تبعا لتقلبات ومواقع السارد، الذي ينتقل بين الواقع والفكرة، بشــكل ســريع حتــى يكاد أن يتحول إلى خيط ســابح في المكان والزمــان. نافثا للمعرفة والســؤال في الحياة والمــوت أو جدليتهما؛ فتتحول الحياة إلى حيــوات، والموت يتخذ وجوها عديدة.

واضــح، أن الاســتغرا­ق فــي الفكــرة والتأمــل حــال دون تقديم صــور متكاملة عن مكونات الســرد من شخوص ومكان.. فبــدت مقضومــة، لكن اهتمــام الكاتب في مؤلفاتــه القصصيــة الســابقة بعناصــر الوجود والإنســان يشــفع لهــا حضورها بتلك الكيفيــة، فأتت القصــص كتكوينات خاصــة، أو قل هــي خصوصيــة الكاتب، المتجليــة فــي فتح أبــواب للقصــة حتى لا تبــدو مرتبطة بالواقع في شــكله الجاري، أو الفهــم البســيط لهذا الواقــع الذي تعلو غرابتــه علــى غرابة القصــة. وعليــه، امتد

ذلك للغــة التــي شــغل الكاتــب الكثير من إمكانياتهـ­ـا. منها توظيف الدارجة بشــكل مفصــح، أو تفصيح العاميــة؛ بل امتد ذلك للعنونــة داخــل هــذا المؤلــف، مــن خــال اختيار بعض اللوازم المتــرددة تداولا )هنا كان، آش هــذا؟( التي تعتبر بمثابة أجراس منبهة وموقظة.

على سبيل الختام

بعد هذا الرصد والتأمل أيضا في مؤلف «أجري بين ضفتين كنهر»؛ يبدو أن القاص أحمــد شــكر الوديع، يضــع أمامنــا قصة وديعة أيضا، عميقة في مادتها، متشــابكة فــي تكوينهــا، بين الفكــر والســرد، هادئة الملمــح الســردي بــدون تجريــب متنطــع. ومتشــابكة الداخل بين المــن والمبنى، في تعميق للحظات نفســية وفكريــة. ما خلق تصعيــدا فكريــا ومأســاويا، أي تعذيــب الفكــرة بالقصــة. بهــذا، فالكاتــب نحــت خصوصيته السردية على مهل، بدون لغط سردي، وبعيدا عن الأضواء العمياء.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom