Al-Quds Al-Arabi

عن كورونا والسيادة المتأصلة!

- خالد وليد محمود ٭ ٭ كاتب فلسطيني

في الوقت الذي كانت فيه ســيادة الدولة الوطنيــة وتراجعها على مدار ثلاثة عشريات من السنين محلّ تساؤل خاصة بعد الزيادة المستمرة لمطالب التدخل الخارجي من قبل النظام العالمي واقتصاد الســوق الحر؛ يأتي وباء كورونا المستجد لإبراز مفهوم السيادة في لحظة من أكثر لحظاتها وضوحا للقــرارات والإجراءات التــي اتخذتها الدول لمواجهة الوبــاء العالمي، مثل حظــر التجول الداخلي والطيران الخارجي وإغــاق الحدود، ولجوء عدد منها إلى فــرض القوانين العرفية أو الطوارئ، وتوســيع دائرة صلاحيات الأجهزة الأمنية والجيش في إدارة عمليات لوجســتية ضخمة على حساب الحريــات في الانتقال والتجارة، مع تقليــص التفاعل مع الخارج من خلال تراجع التجارة الدولية والسياحة، واتجاه الدول لتعزيز الإجراءات داخل جغرافيتها بتعاملها مع الفيروس محليا خوفا من انتشاره.

منظمة الصحة العالمية

ورأينا كيف أن مكافحة الوباء المســتجد خضعــت لقرارات وطنية أكثر من خضوعه لمؤسســات دولية مثل )منظمة الصحة العالمية( فالجزء الأكبر من جهود الاســتجاب­ة لأزمة فيروس كورونا كان قوميا بطبيعته، ولم تقده مؤسسات دولية متعددة الأطراف.

لقد ســاهم تفشــي الوباء بدرجــات متفاوتة في تســليط الضوء على الجوانــب الســلبية للعولمة، مثل انتقال الأمراض بشــكل متســارع، حتى أصبحــت كل دولة تميل إلى تقليص الاعتماد المتبــادل أو التكامل مع غيرها من الدول. هذا بالإضافة إلى جانب تنامي مؤشرات الحمائية والعزلة دوليا وهــو ما يعيد المنظور للدولة القومية التــي تتبناها النظرية الواقعية التي تؤكد على السيادة والمصلحة القومية.

ولــكأن الدولة الوطنية اليوم تســتعيد بعضا من مجدهــا الغابر، وهي التــي تقود إلى حد ما المعركة ضد انتشــار )كوفيــد-19(. فحالة الطوارئ التي يشــهدها العالم بســبب الوباء تشــير إلى أنّ الدولة مــا زالت فاعلا

مركزيّا في السياســات الدولية المعاصرة، وأما الفاعلون من غير الدول في مختلف صورهم، سواء )الوطنية أو العبر- وطنية( فقد أصبحوا في أحسن الأحوال فاعلا تابعا.

وبهذا يتّضح لنا كيف شــكّل فيروس كورونا قوة دفع رئيســية لتعزيز سيطرة الدولة مجتمعيا، وهو ما تجلّى مع الإجراءات والتدابير الاحترازية المشــدّدة التي اتخذتهــا العديد من الــدول حول العالم، لا ســيما المتعلقة بالتباعد الاجتماعي وقرارات الإغلاقات المستمرة لأسابيع متواصلة. ورأينا كيــف زاد )كوفيد-19( من أهميــة الخدمات الوطنية التــي تقدمها الدولة للتعامل مع حالات الطوارئ: الرعاية الصحية، قوات الاستجابة للطوارئ، ونظام التعليم، والنقل العام ...الخ، وتقديم فرص عمل بديلة أو تعويضات للذين فقدوا وظائفهم بسبب الأزمة.

بينما يكتســب الوباء بانعكاســا­ته على كل المجالات بُعدا عالميا، لا تزال عملية مكافحته مقتصرة على الصعيد الوطني بنسبة كبيرة. بعبارة أوضح: تكافــح كلّ دولة )كوفيد-19( بما لديها من إمكانات متاحة وســيتحول هذا الوضع بالنسبة للدول إلى عملية تعلّم، وينتظر أن ينعكس على سلوكياتها بعد الأزمة. فالدولة الوطنية بدت هي الفاعل الرئيســي والمركزي وهي من تقرر من سيتم إنقاذه وبأي طريقة وإلى متى.

التطورات الدراماتيك­ية

لكن علــى الرغم مــن أن التعرف على عالــم )ما بعد كورونــا( في ظل التطورات الدراماتيك­ية المتســارع­ة ســيكون صعبا، لكنه يستحق المجازفة الفكرية، فالمؤشرات الأولية توحي باســتنتاج­ات سيكون لها أثر في كتابة مفاصل في العلاقات الدولية، وأن ثمة مراجعات ســتتم استنادا لتداعيات وباء الفيروس عالميا، ومنها قيم النظام الدولي الســائد الذي تسيطر عليه الأيديولوج­يا «الليبرالية» بشــقيّها الكلاســيك­ي والجديد، والتي تحدُّ من ســلطة الدولة القومية وتعــزّز آفاق التكامل والتعاون بــن الدول، ورأينا كيف غــاب التعاون الدولي بمجرد تعرض الــدول الغربية «راعية العولمة» لأزمة تهدد وجودها، وحلّت محلــه القرصنة وإغلاق الحدود والامتناع عن تقديم المســاعدا­ت. ورصدنا كيف عززت أزمة )كوفيد-19( من تأثير القادة الشــعبويي­ن الذين طالبوا بمزيد من فرض سيادة الدولة الوطنية لبلدانهم والحدّ من حريات الحركة والتنقل وفــرض القوانين، والأوضح من ذلك أنّ )كوفيد-19( أعاد تشــكيل الجغرافيا السياســية للــدول بحيث اتضحت المفارقــا­ت والتباينات بين المناطق القادرة على مواجهة انتشــار الفيروس والمناطق الرخوة الهشة.

لقد أظهــرت لنا الجائحــة عودة الدول الرأســمال­ية لأنظمــة الحمائية الاقتصادية مــع غياب لمفردات التكامل والتعــاون الأوروبية وحلّت محلّها سياسات الحدود والقومية والأمن القومي بدل سياسات الحدود المفتوحة. وبــرزت أصوات نخبوية داخــل المجتمعات الغربيــة لا تهتم إلا بمصالحها الضيقة وكلها معطيات تضع علامات استفهام على مستقبل الليبرالية التي ينادي بها العالم المعولم اليوم.

دور الرقابة للدولة

وحيث تبقى الســيادة متأصلــة في الدولة الواحدة فســنجد أن مفهوم التعاون الدولي ســيظل يجابه عديدا من العقبــات، وأن ثمة تراجعا جرى رصده خلال الشــهور القليلة الماضية لمفاهيم ونظريــات العلاقات الدولية التي تبنتها المدرســة الليبرالية مثل )التعاون الدولــي، الاعتماد المتبادل، دور المنظمــات الدولية والشــراكا­ت العالميــة( بينما رجّحــت كفة مفاهيم المدرسة الواقعية كالمصلحة الفردية والمكاســب النسبية، وهذا سيدفع إلى بروز آراء وطروحات ونقاشــات لإعادة النظر في المفاهيــم الدولية جراء تداعيات جائحة كوفيد-19. وعليه؛ يتوقع أن تؤدي الجائحة إلى تشــكّل «عولمة التباعد الدولي» القائمة كما ذكرنــا أعلاه على الاتجاه نحو الداخل والتركيز على الاقتصاديـ­ـات الوطنية مع تعزيز أنماط الاقتصاد الافتراضي عبر الإنترنت والاتصال الرقمي.

ورغم ذلك؛ لا يمكننا الحديث عن عهد جديد للدولة القومية، فالحقيقة أن الدولة لم تغب أصلا حتى يقال إنها عادت، ولكن الأصحّ أن ما جرى هو إعادة الاعتبار لبعض مظاهر السيادة التي همشتها العولمة، فأزمة جائحة كورونا

أعادت درجة الثقة بين المواطنين والدولة، وساعدت بصورة أو بأخرى على التفكير في العودة إلى الدولة الوطنية في ظل تراجع نفوذ الليبرالية، وبدا واضحا أهمية وجود دولة الرعاية الرفاهية الاجتماعية، والتي أثبتت أنها الأقّدر على التعامل مع الأزمات المفصلية التي تهدد بقاء الشعوب.

إنّ مــا كشــفته جائحة كورونــا على هــذا الصعيد، هو عــودة الدول والحكومات للتدخل بعمق وقوة في إدارة الشــأن العــام، من الصحة إلى الاقتصاد، وســتكون لهــذه اللحظة المرشــحة للامتداد الزمنــي تداعيات سياسية واقتصادية، ليس أقلها أن الدولة -في مجتمعات الشرق الأوروبية والآسيوية والمتوسطية - وعلى الرغم من غياب الديمقراطي­ة وضعف حكم القانون تظل الفاعــل المجتمعي الأكثر قدرة على مواجهــة الأزمات الكبرى وتقديم مظلات الأمان المطلوبة لتجاوز الأخطــار المحدقة بالمواطنين صحيا واقتصاديا.

ورغم ما يثار حول تعاطي الدول مع الجائحــة، أي قدرتها على المواءمة بين متطلبات الحفاظ علــى حريات الأفراد )رغم تتبــع تحركات مواطنيها الذيــن يمكن أن يكونوا حاملين للفيروس إلكترونيــ­ا دون موافقتهم( إلا أنّ الظاهر هو تعزيز دور الرقابة للدولــة الوطنية بدافع حماية الأمن القومي، والحفاظ على اســتقرار المجتمعــا­ت جنبا إلى جنب مع الإشــكالي­ة المتعلقة بتغلغلهــا على المســتوى الاقتصادي بشــكل أكبر، وهو ما أكســب الدولة نفوذا في بسط ســيادتها والذي قد يكون من الصعوبة في ظل الجائحة أن تتخلى عنه بســهولة، وهي التي وجدت ضالتها بالاعتماد على نفســها في الضبط والربط، ســيما في مجالات الصحة والغذاء، أو على الأقل أن تكون هذه القطاعات تحت أعينها ورعايتها. فالمجتمعات البشــرية استعادت في مواجهتهــا المصيرية لهذه الجائحة، وعيا جماعيــا بمركزية الدولة كملاذ لا غنى عنه لحمايتها وتأطير جهودها.

ومن هــذا المنطلق، بــدأت تظهر نقاشــات تتحدث أنه عندمــا تمر أزمة كوفيد-19 لا بــدّ من إعادة النظر في المفاهيم الأساســية لســيادة الدول، والتفكير في كيفية إعادة بنائها بطريقة تجعلها أكثر عدلا وفعالية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom