Al-Quds Al-Arabi

حَجَر البابا ومستنقع العملية السياسية في العراق

- *كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

للفترة من 5 – 8 مارس/ آذار الجاري زار البابــا فرنســيس رأس الكنيســة الكاثوليكي­ــة العراق. وصفــت الزيارة بالتاريخيـ­ـة، لأنها الأولــى التي يقوم بها زعيــم الفاتيكان لهذا البلد، لأنه الأكثر تاريخية بالنســبة للأديان السماوية ومنها المسيحية، التي يعتبر أتباعها جزءا أصيلا من الهوية العراقيــة. وعلــى الرغم مــن الظروف الأمنيــة والصحية الخطيرة فإن الرجل أصر على الزيارة وقال، إنها تســتحق المخاطرة، فاســتحق أن تسجل له كموقف إيجابي وشجاع، خاصة مع الوضع الصحي الذي يعانيه شخصيا.

وبعيدا عن المثالية واقترابــا من الواقعية، لابد من القول إن الزيارة تم تحميلها ما لا تحتمل، لأسباب محلية ودولية، لا مجال للخوض فيها في هذا الحيز، حتى بدت وكأنها انفجار عصر تاريخــي جديد على العــراق. في حــن أن اللقاءات الدينية، وإطلاق حمامات الســام، وصور التراث الشعبي والخيالــة الذين يحيطون بالموكــب، والصلاة الموحدة بين

أتبــاع الأديان المختلفة، كل هذه الصور التي رأيناها في هذه الزيارة، هي لوحات رمزية لا تشــكل ولا تترك أي دالة مادية على أرض الواقع.

لكن هذا ليس مرده عجزا ذاتيا تعانيه الزعامات المعنوية في إحداث خــرق في الأزمات التي يعانيهــا العراق وغيره من البلدان، بل لأنهم لا يملكون الوســائل التي توسّــل بها الساســة، فصنعوا هــذا الواقع البائس والمأســاو­ي الذي يعانيــه النــاس. فالزعيم الروحــي رصيده القيــم، بينما السياسي رصيده القوة الصلبة، واليوم دخل السياسي إلى بيت الدين لابسا عباءته، وذهب حتى إلى استغلال اللقاءات الدينية بين زعماء الأديان، واستثمارها في قضايا سياسية. وقد رأينا كيف كان الاســتغلا­ل بشــعا في الوثيقة التي تم توقيعها بين شــيخ الازهر والبابا فرنسيس «وثيقة الأخوة الدينيةّ» قبل عامين من الآن في دولة الإمارات العربية، حيث تم اســتثماره­ا كمبرر للتطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي يغتصب أرضنا ويقتل أهلنا بحجة أننا جميعا أبناء إبراهيم. لقد كان واضحــا أن هنالك أصرارا على وضــع رحلة زعيم الكنيسة الكاثوليكي­ة في إطار سياسي، وهو اتجاه رغائبي معــروف الأهداف والنوايــا، رغم أن الرجــل قال بصراحة وبوضوح، إنه في مهمة حج روحي وليس في مهمة سياسية. كما عرّف نفسه بأن لديه خطا مستقيما هو طريق الإنسانية والأخوة والتســامح الديني، وليس طريق السياسة. وهذا هو الواقع الشــخصي للزعامة البابوية في هذا العصر، فهي ليس لديها فرق عســكرية تســتند إليها في تحقيق أجندات سياسية، بل لم يعد لديها حتى تأثير على أتباعها من صُنّاع القرار في الولايــات المتحدة الأمريكيــ­ة وأوروبا، لتحقيق العدالة ورفع الظلم. ولو كان لهــا هذا التأثير لما حصل غزو أفغانســتا­ن والعراق، رغم المناشــدا­ت التي كانت تطلقها. لكن وعلى الرغــم من ذلك فإن الســلطات العراقية وبعض القوى الإقليمية والدولية، لم تتوانى عن اســتغلال الحدث خدمــة لأهدافها. فأصحاب الســلطة في العراق اســتماتوا في جعل زيارة البابا شــهادة اعتراف بهــم، محاولين القفز علــى الحقائق الكارثية التي صنعتهــا أيديهم. كما تم النفخ

في اللقــاء الذي حدث بينه وبين المرجعية الشــيعية العليا كثيرا. فذهبــت أطراف أخرى للتأكيد على أن زيارته للنجف هي اعتراف رسمي مسيحي بمرجعيتها، ما يعني تعلية قدح طائفة على أخرى في العراق.

أما الأطراف الدولية، فحاولت استغلال المشهد في خدمة الصراع مع طهران، من خلال الايحاء بأن زيارة النجف تعني أهميتها على حســاب مرجعية قم، بينمــا كان حديث الرجل عن المرجعية في إطار عام، لأن ليســت لديــه أيديولوجية. ومع ذلك فقد ظهرت بعض الشــواهد التي لا يمكن التغاضي عنها، والتي عدّها البعض وكأنها قنابل موقوته دُسّــت في برنامج الزيــارة، منها لقاء البابا بأحد زعماء الميليشــي­ات المتهمين بجرائم فــي الموصل، وكذلك عــدم تخصيص لقاء منفرد مع المرجعية السُــنية علــى غرار اللقــاء بالمرجعية الشيعية، الذي كان تبريره من قبل الفريق الُمقرّب من البابا، بأنه سبق والتقى شــيخ الأزهر الذي يمثل مرجعية كل أهل السُنة في العالم العربي. وعلى الرغم من أن الزيارة لم تكن زيارة سياسية لكن العبارات التي انتقاها البابا في الحديث مع الساســة كانت بالغة التعبير لمن ألقى السمع وهو شهيد. لقد حاول أن يُلقي حجرا في المســتنقع الآسن، الذي يُسمى العملية السياسية، وأن يدفع القائمين عليها للتفكير أكثر في أهمية هذه البقعة الجغرافية التي هي العراق، من خلال قوله لهم وجها لوجه )لتصمت الأســلحة ولنضع حدا لانتشارها هنــا وفي كل مــكان، ولتتوقف المصالح الخاصــة، المصالح الخارجية التي لا تهتم بالســكان المحللين، كفا عنفا وتطرفا وتحزبات وعدم تســامح(، وكأنه كان يعــرف تماما، أن من يجلســون أمامه محتفون به، هم مجرد مجموعة من القتلة والميليشيا­ت التي تعمل من أجل مصالح خارجية، بل زاد في الطرق على مسامعهم وهو يقول لهم بضرورة )التصدي لآفة الفساد وسوء استعمال الســلطة وتحقيق العدالة، وتنمية النزاهة والشفافية، وتقوية المؤسسات المسؤولة عن ذلك(. لكن الحقيقــة التي يجب أن تقال هي أنــه لا البابا ولا غيره مــن العناوين الدينيــة قادرين على رفع ولو جزء بســيط مما يعانيه الشــعب العراقي، وحتى الأخوة المسيحيون لن

يكسبوا من الزيارة غير الدعم الروحي لا أكثر. فلن يستطيع منع القتل والاختطاف والتهجير، ولن يســتطيع التصريح بدعم ثورة تشرين، التي قتل الساســة الذين التقاهم منها أكثر من 700 شاب، ولن يســتطيع إدانة الميليشيات، ولا أن يطلب من الذين سرقوا أموال العراق إعادتها إلى العراقيين. يقول أحد المســيحيي­ن في العراق على قنــاة فضائية )كان على البابا أن يذهب إلى أتباعــه في المخيمات. المطلوب منه أن يذهب لتفقد دورهم التي هُدمت في العمليات العســكرية في الموصل، وأن يســأل زعماء الميليشــي­ات لماذا مازالوا لا يســمحون بعودتهم إليها؟ ولماذا يضغطون على المسيحيين في بغــداد ومحافظات الجنــوب كي يُســيّروا مواكب لطم وطقوس دينية في مناســبات مُحرم؟ ولماذا زوّروا سندات ملكية دور المســيحيي­ن الذين هربوا للخــارج وقاموا بنهبها قبل بيعها؟(.

يقينا أن ما حصل في العراق لــم تتعرض له طائفة دون أخــرى، ولم يكن ضحيتــه أتباع دين دون آخــر. لقد كانت المأساة شــاملة والضرر مس الجميع. اليوم باتت الدعوات إلى التســامح باهتة، والقول بقبول الآخر لا معنى لها، لأن خط التســامح لم يتزحزح قيد أنملة بين ابناء العراق، لكن من ينشــر ثقافة العداء ورفض الآخر، هم هؤلاء الساســة الــذي التقاهم الحبر الأعظــم، والذين أوصلهم إلى ســدة الســلطة هو الغزو الأمريكي الأوروبي. هذا الفعل هو الذي جعل العراق يحتل العناوين الرئيســية في البؤس والقتل وإنتاج وتصدير الميليشيات. الأســئلة الأكثر إلحاحا اليوم هي ما الذي ســتتركه هــذه الزيارة علــى أرض الواقع؟ ما هي تداعياتها على مســيحيي العــراق خصوصا؟ وما الذي ســيتغير عندما تغادر طائرة البابا الأجــواء العراقية؟ هل هي حزمة ضوء تم تســليطها على الوطن المنكوب وحسب؟ أم أن مــا بعدها ليس كمثل ما قبلهــا؟ لقد تمنى الرجل عودة المســيحيي­ن إلى العراق، لكن الســؤال الابرز هل بالأمنيات وحدها ترسم أبعاد الصورة؟

عرّف البابا نفسه بأن لديه خطا مستقيما هو طريق الإنسانية والأخوة والتسامح الديني، وليس طريق السياسة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom