Al-Quds Al-Arabi

عرب يحكمون أمريكا اللاتينية

- * كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»

يترتب عن الهجــرة نقاش عالمي في الوقت الراهن، يتخذ منحى سياســيا جادا، كما يتخذ منحى سياسيا شعبويا بشأن اندماج المهاجرين في المجتمعات الحاضنة للهجرة. ويجري التركيز في الغالب على الهجرة نحو الغرب، وفي المقابل يجري تناسي مناطق أخرى من العالم مثل، منطقة أمريكا اللاتينيــ­ة حيث اندمج العــرب وأصبح عدد منهم رؤساء دول خلال العقود الأربعة الأخيرة.

والاندماج كمصطلح وكمفهوم، أصبح من الكلمات الأكثر انتشــارا في الخطاب السياســي والثقافي خلال العقود الأخيرة بســبب الهجــرة، وهيمن على الجــدل الثقافي

والسياسي بعد التفجيرات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي تلتها في عدد من العواصم الأوروبية. وســاهم ظهور الأحزاب السياســية المتطرفة قوميــا وثقافيا، مثل الجبهة الوطنية في فرنســا، التي تحمل الآن اسم التجمع الوطني، في تأجيج الجدل حول الظاهرة.

ونظــرا لثقل الثقافة والسياســة الغربية فــي العالم، يسود الاعتقاد بأن الاندماج الذي هو من النتائج المترتبة عن الهجرة، ظهر أساســا مع الهجرة العربية، وأساســا المغاربيــ­ة نحــو أوروبــا، وبالخصــوص فرنســا. وبدأ البعض لاحقــا اختزاله في الدين الإســامي، أي اندماج المســلمين، بعد ظهور الإســام السياســي وانتعاشه في بعض الدول الأوروبيــ­ة مثل، بريطانيــا التي احتضنت حركات إســامية كثيرة. ويعد الإســام عنصرا مهما في الجــدل حول الاندماج، لكنه ليس حاســما، وقد كشــفت تجارب الهجرة هذا، فرغم مسيحية المكسيكيين، أو شعوب أمريــكا اللاتينية، فهم غيــر مرحب بهم بشــكل كبير في الولايات المتحدة. ومن أســباب نجاح البريكسيت رفض بعض البريطانيـ­ـن للأوروبيين القادمين من الجمهوريات الاشــتراك­ية الســابقة مثل بولونيا، علما أن الأمر يتعلق بمسيحيين وليسوا مسلمين.

وفي غضون انشــغالنا بالاندماج ومشاكله بين العالم العربي - الإسلامي والغرب، نتناسى قصة نجاح اندماج في منطقة أخرى من العالم، شــهدت هجرة عربية كبيرة، ويتعلق الأمــر بالهجرة العربية الى دول أمريكا اللاتينية، والاندماج بشــكل كبيــر للغاية، من حيــث المناصب التي وصــل إليها مهاجــرون عــرب، كذلك الحال مــع الهجرة العربية الكبيرة إلى بعض الدول مثل حالة التشيلي، التي يقيم فيها أكثر من نصف مليون من أصول فلسطينية. وإذا كان الكاتب الفرنســي المثير للجدل ميشيل هولبيك ينسج

أجواء خيالية في رواية «الخضوع» الصادرة ســنة 2015 ويتكهن بوصول عربي اســمه محمد بن عباس الى رئاسة فرنسا، فما تعيشه فرنسا من خيال أدبي تعيشه وعاشته بعــض الدول من أمريــكا اللاتينية واقعــا حقيقيا، حيث وصل عرب إلى رئاســة بعض من هذه الدول بشكل عادي وطبيعي، بدون نقاش عميق حول الاندماج والتســامح، وباقــي المصطلحات الرائجة في «ســوق إشــهار المعرفة البسيطة السطحية». من ضمن الأمثلة، يرأس السلفادور ومنذ ســنة 2019 الرئيس نجيب بوكيلي، الرئيس الشاب الــذي لم يتجــاوز الأربعين مــن عمره، وهــو من أصول فلسطينية، وليس هو الأول بل سبقه فلسطيني آخر وهو إلياس أنتونيو الــذي حكم البلاد ما بين ســنتي 2004 - 2009. يمكن العودة الى الوراء لنعرف رؤساء دول المنطقة من أصــول عربية، وكانت البداية مع ســيزار تورباي من أصول لبنانية في كولومبيا، ما بين ســنتي 1978 و1982، ثم وصول خوان عصبون من أصول فلسطينية الى رئاسة بوليفيا ســنة 1978. وارتفعت اللائحة مع كارلوس منعم الرئيــس الأرجنتيني الــذي رحل منذ أســابيع، وترأس هذا البلد ما بين ســنتي 1989 - 1999. وشهدت الأكوادور رؤســاء من أصول عربية مثل حالة عبد الله بوكرم ما بين 1996 إلــى 1997، ثم جميل معوض ما بين ســنتي 1998- 2000، وفي البرازيل ميشيل تامر من أصول لبنانية، احتل منصب رئاسة البرازيل ما بين 2016 إلى 2018.

هــذه الهجــرة العربيــة الناجحة، لــم يركــز عليها الأوروبيون لأنهم يعتقدون أن الهجرة والاندماج مسرحها الغرب فقط. ولم تســتقطب انتباه الباحثين العرب سوى قلة قليلة على رأسهم المؤرخ والباحث المغربي عبد الواحد أكمير، صاحب مؤلفات كثيرة في هذا الشــأن منها «العرب في أمريكا اللاتينية» أو «العرب في الأرجنتين».

ويحاول بعض الباحثين في الغرب تبرير نجاح الهجرة العربية، لكونها كانت في الغالب من المســيحيي­ن العرب، وليس من المســلمين، وقد يحوز هذا المعطى أو المبرر على قدر بسيط من الصدقية، لكن هناك عاملين حاسمين هما:

في المقام الأول، لم تتأثر أمريكا اللاتينية بتاريخ الغرب في رؤيته الشــائكة للعالم العربي -الإسلامي، بل يسود فيها خطاب سياســي عنيــف ضد الاســتعما­ر الأوروبي للمنطقة، رغم مرور قرنين على تحــرر أغلبية دول أمريكا اللاتينية. ويعد الخطاب الثقافي وما يترتب عنه من رؤية الآخر مهما في أي عملية اندماج.

في المقام الثانــي، لم تضع أمريــكا اللاتينية إجراءات ضد الهجرة العربية، بل فتحت المجال لها للعمل والإقامة. ومازالت معظم دول أمريــكا اللاتينية حتى الآن لا تفرض تأشــيرات على العرب، ولهذا بدأت هجرة عربية نشيطة خلال السنوات الأخيرة.

وهكذا، بينما كانت أوروبا تستعمر العالم العربي وتمنع العرب من الهجرة إلى الدول الأوروبية، كانت حدود دول أمريكا اللاتينية مفتوحة في وجه الهجرة العربية. وبينما مازال وصول عربي الى رئاسة دولة أوروبية مقتصر على الخيال الأدبي مثل حالة رواية «خضوع» لميشــيل هولبيك من خلال شــخصية محمد بن عباس، اعتلى مواطنون من أصول عربية رئاسة بعض دول أمريكا اللاتينية منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. حدث كل هذا بدون التسبب في ظهور سياسيين من طينة ماري لوبين في فرنسا، وأباسكال في إسبانيا وماتيو ســالفيني في إيطاليا، وغيرت ويلدرز في هولندا ضمن آخرين.

الاندماج كمصطلح وكمفهوم، أصبح من الكلمات الأكثر انتشارا في الخطاب السياسي والثقافي خلال العقود الأخيرة بسبب الهجرة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom