Al-Quds Al-Arabi

الجنسية الجزائرية… ليست مجرد وثيقة وليست هبة من أحد

- ■ ٭*كاتب صحافي جزائري

أتمنــى أن فــي النظــام الجزائــري عقــاء ســيعملون على منع تقنين إســقاط الجنســية عن جزائريين في الخارج، لأن بعض الحكام في الداخل، قدّروا وقرروا أنهم «أساؤوا للوطن» ويستحقون تلك العقوبة.

لا أتوقع ان الذين وراء قانون الجنسية الجديد يجهلون أن الجزائر لم تُسقط قط جنسيتها عن أبنائها حتى في أحلك الظروف وأكثرها صعوبة.

لم تجرِّد الجزائر من جنسيتها الحَرْكى وعملاء فرنسا غداة الاستقلال. عندما ناشدت حكومات أوروبية، وبينها فرنسا وبلجيكا، السلطات الجزائرية إسقاط الجنســية عن هؤلاء كي تتمكن هذه الحكومات من منحهم جنسيتها، ردَّ الرئيس بومدين بكبريــاء: لن أحرم جزائريا من جنســيته مهمــا كان الظرف. ويعرف الجزائريون الذين عاشوا أيام الاستعمار أن بعض الحَرْكى فعلوا بأبناء وطنهم ما يستحق أكثر من خلع الجنسية.

ولم تنزع الجزائر جنســيتها عن عتاة الإرهابيين والقتلة الذين سفكوا الدماء وأهلكوا الحرث والنسل في تسعينيات القرن الماضي. بل عزَّزتهم وأهدتهم تجارة ومالا. وليس معلوما أنها نزعت جنسيتها عن الناشط والمغني الأمازيغي فرحات مهني الذي يطوف فرنســا وأوروبا داعيا إلى اســتقلال منطقة القبائل عن بقية الجزائر. ولم تنزعهــا عن كبار اللصوص والمخرّبين مــن وزراء ومدراء ورجال مال وأعمال عاثوا فسادا ولصوصية في خيرات شعبها وممتلكاته أمس واليوم. بعضهم داخل البلاد وآخرون فارون في الخارج.

الذي أوحى للرئيس تبون ورئيس وزرائه جرّاد بهذا القانون غير الإنساني، حتمــا يريد لهمــا الفضائح والخذلان ويبحــث عن دفعهما الى مآزق سياســية وقضائية وأخلاقية غير ضرورية. حدثت حالات نادرة وسُــحبت الجنســية من أجانب كانت مُنحت لهــم كَمِنَّة في ظروف معيّنة وفق حســابات معيّنة، وكانت بمثابة منح جواز سفر أكثر منه جنسية وتجنيس. لو جلس الوزراء والمسؤولون المعنيون ســاعة واحدة لتدارس عواقــب هذا القانون، وتذكيــر بعضهم بعضا بخطورتــه، لَمَا أخرجوه للعلن. هناك حقل ألغام شــديد الخطــورة تتجه إليه السلطات الجزائرية بهذا القانون. المســؤولي­ة أمام أي قانون فردية وشخصية. وعلى افتراض، بمنطقهم، أن شــخصا ارتكب ما يســتحق العقــاب وحُكم عليه بسحب الجنسية، ماذا ستقول الجزائر لأبنائه الذيم سيولدون لاحقا؟ لأن إسقاط الجنسية عنه يتبعه تلقائيا حرمان ذريته منها. ثم منذ متى فرَّق أيَّ قانون وطني بين جزائري في الداخل وآخر في الخارج؟ كيف سيُعاقَب جزائري في الداخل إذا أُدين بالتهمة ذاتها التي تتطلب إسقاط الجنسية عن جزائري في الخارج؟ لست خبيرا لكن أعرف بالعقل أن القوانين الدولية ترفض إسقاط الحكومات الجنسية عــن مواطنيها بهذه الســهولة، خصوصا إذا كانوا مغترببن ويحملون جنســية وطنهم الأم فقط. لو عملت كل الدول بمنطق السلطات الجزائرية الأعور، سيكون نصف سكان العالم «بدون» جنسية.

اضطرت الســلطة الجزائريــ­ة إلى هذا الطريــق الملغوم فقــط لأن حفنة من المعارضين أعلنوا حربا شــعواء علــى النظام عبر موقع «يوتيــوب» ومنصات التواصل الاجتماعي الأخــرى، واحتارت في أمرهم. أبرز هؤلاء، الدبلوماسـ­ـي المنشــق قبل 26 سنة محمد العربي زيتوت، وشاب عديم الخبرة السياسية، لكنه شــديد الجرأة، اســمه أمير بوخرص ويشــتهر بـ«أمير دي زد» نسبة إلى الرمز الدولي للجزائر. إضافة إلى آخرين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.

إذا كانت الجنســية الجزائريــ­ة مجرد وثيقة إدارية تُمنح وتُســحب، فهؤلاء فقدوها منذ سنوات طويلة. فهم لا صلة إدارية وقنصلية لهم بالجزائر، لأنهم بين مُجنَّس في بلد المهجر ولاجئ سياسي وطالب لجوء، ومحرومون سلفًا من جواز الســفر والوثائق الجزائرية، ولا يفكرون في الاقتراب من بعثاتها الدبلوماسي­ة والقنصلية. علــى الأغلب، القصد بالقانون تعميم الرعب في الشــتات لإخراس الجميع. وعلى الأغلب، القانون علامة ضعف وارتباك.

فوز زيتوت ورفاقه بثقة الكثير من الجزائريين حتى أصبحت شــعاراته تُرفع فــي مظاهرات الحراك، هو نتيجة طبيعية لسياســات النظام ســابقا وحاضرا. لقــد عمل النظــام، ولا يزال، علــى تدجين المعارضــة السياســية، وعلى تدمير الحيــاة العامة لكي لا يبقى فيهــا إلا هو والانتهازي­ون اللاهثــون وراء المصالح والامتيــا­زات. لا يُعقل، بعد كل ذلك التجريف، أن يســتغرب أحد بروز بوخرص وزيتوت وغيرهما. هناك حقل ألغام آخر، سياسي هذه المرة.

الجزائر بلغت زمنا الجزائريُ الصالح فيه هو الذي يرفض الصمت ويعارض نظــام حكم بلاده بلا عنف. لم يقم ملايين الجزائريين في الداخل والخارج بثورة سلمية رائعة لكي تكون النتيجة قانونا يُسقط الجنسية عن جزائريين آخرين.

من حيث الشــكل، هناك أسئلة تفرض نفســها عن توقيت القانون وظروفه. هناك أولاغياب البرلمان الذي حلّه الرئيس تبون بمرســوم رئاســي. والحكومة فــي حكم تصريف الأعمال لأن تبون قال إنه فضّــل الاحتفاظ بها إلى حين إجراء انتخابات عامة قريبا لكي يترتب عنها برلمان وحكومة جديدان.

صحيح أن حال البرلمان محزن، وهو غائب حتى قبل حلّه ويستحيل أن يرفض قانونا يأتي من الســلطة التنفيدية. رغم هــذا كان يجب التفكير في الحفاظ على الشــكل. الفراغ، إذًا، يفتح الباب لتمرير القانون بأمر رئاسي إذا كانت السلطات مصرَّة عليه. لكن التشــريع بأوامر رئاســية )المادة 142 من الدستور( يكون بين دورتي البرلمان وفي الحالات الطارئة. فهل تجريد جزائري من جنســيته بسبب أرائه السياســية، مهما كانت معارضة ومتشددة، أمر طارئ يستحق قانونا بأمر رئاســي؟ نأتي الآن إلى الأســئلة/الاتهامات التي بموجبها تُسحب الجنسية من صاحبها. وفق المتاح حاليا، تتعلق الاتهامــا­ت بوحدة الوطن ومصالحه العليا. لكن هذه المفاهيم هــي الأكثر غموضا ومطاطية لغةً ومضمونًا. واســتطرادًا هي الأسهل لتأويلها والتلاعب بها. ما تعريف «الأفعال الُمضرَّة بمصالح الدولة» والتي «تقوِّض الوحدة الوطنيــة»؟ هل الحديث في «يوتيوب» وبقية المنصات أفعال أم أقوال؟ مَن سيضمن للجزائريين أن أركان النظام، اليوم ولاحقا، لا يخلطون عمدًا بين أنفسهم والوطن؟ مَن ســيجزم مخلصًا بأن فلانا تطاول على مصلحة الوطن وفلانا غيره تطاول على نظام الحكم؟ وشتَّان بين الاثنين.

من الوارد أن يُســعِد القانون بعض قطعان الغوغائيين والحمقى، لكن الأكيد أن الجزائر لن تجني منه شيئا. الدول قوية بسموها وقدرتها على احتواء أبنائها لا بقمعهم. لم يفت الآوان بعدُ لاستدراك الموقف. والتراجع اليوم أسهل وأقل كلفة من التراجع غدا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom