Al-Quds Al-Arabi

اللعبة الإسرائيلي­ة ومنصور عباس

-

أصيــب الكثيــرون بالذهــول مــن مفاجــأة طبيب الأســنان وعضو الكنيســت الإســرائي­لي منصور عباس حين وصف، في مقابلة له مع إحدى القنوات الإسرائيلي­ة، الأسرى الفلسطينيي­ن بالمخربين!

قيــل إنهــا زلة لســان، وأن الرجل لــم يقصد المخربــن بكلمة مخربــن، وقيل إنه انســاق وراء تعبيــر «مِخَبْليم» الــذي قالته مقدمة البرنامج.

لو توقفت زلات لسان عباس هنا لقلنا إن الرجل انزلق كلامياً إلى حيث لا يريد.

لكن زعيم الحركة الإســامية الجنوبية لم يكتف بما قاله، بل قرر أن يتزحفط، فأتى بنتنياهو بالاشــترا­ك مع علي ســام إلى ناصــرة توفيق زياد «فاتحاً» وقــرر أن يبيعنا قدرته على التأثير على السلطة الإسرائيلي­ة، متناســياً أو ناسياً أن قانون القومية جعــل منه ومن أقرانه الفلســطين­يين في إســرائيل مواطنين من الدرجة الثانية.

أعــرف أن الســيد عبــاس ســوف يعتــرض علــى وصفــه بالفلســطي­ني، فشــرط الدور الــذي ارتضاه لنفســه ولحركته، ولقائمتــه الانتخابيـ­ـة، هو التماهــي مع اللغــة الصهيونية. فهو بحســب هذه اللغة، ينتمي إلى عرب أرض إسرائيل، وفي صيغة أخرى إلى عرب 48، وكان الله بالسر عليماً.

ســبب ذهولنا هو أننا تناسينا ماذا يجري في الإقليم وتأثير ذلــك علــى الفلســطين­يين داخل الخــط الأخضــر، أي في داخل الداخل.

فالصورة التي ارتسمت في أذهاننا هي صورة شعب صامد يواجه النكبات، ويتمســك بأرضه وهويته. فهذه الشــريحة من الشــعب الفلســطين­ي التي عزلتها إســرائيل وعزلهــا الخطاب القومجــي العربــي عن محيطهــا الفلســطين­ي والعربي، نجحت ليــس في أن تصمــد فقط، بــل في تقديم صــورة بهيــة، مثلتها قامــات سياســية وثقافيــة كبيــرة كالإميلــن تومــا وحبيبي، وجسّدها شاعر وقائد كاريزمي من قامة توفيق زياد.

ســمحت مرحلة العزلة تلك، على الرغــم من أخطائها، ببلورة إرادة شــعبية صنعت نضالات كبــرى، ووصل هذا النضال إلى ذروتــه في يــوم الأرض )30 آذار- مارس( الــذي صارت ذكراه السنوية عيداً وطنياً فلسطينياً.

في زمــن العزلة تلك، كانــت المواجهات تميل إلــى الوضوح، هناك العملاء الذين ارتضوا خدمة ســيدهم الإسرائيلي، وكانوا أدواته من أجل تدجين الفلسطينيي­ن على الذلّ، وهناك الوطنيون في مختلــف تنويعاتهم من الحزب الشــيوعي بعد انفصاله عن صهاينة «حزب ماكي» إلى حركة الأرض وأبناء البلد.

في تلك المرحلة، ولدت اللغة المقاومة التي لعب راشد حسين، أول شــعراء مــا بعد النكبــة، دوراً كبيراً في تأسيســها، قبل أن يحمل شــعلتها محمود درويش وتوفيق زياد وســميح القاسم، ويصوغ إميل حبيبي مراراتها الساخرة الساحرة.

أما في الزمن الحالي، زمــن «اتفاقيات إبراهيم» و»زَحْفَطت» المماليــك العرب الذين قايضوا «ســامهم» بأمنهم. )زحفطة من زحفطون، وهي عبارة صكّها ســعيد تقي الدين من إدغام كلمتي الزحف على البطون(. واستسلموا صاغرين أمام إسرائيل التي وعدتهم بحماية عروشهم مقابل قيامهم بالتغطية على الجريمة المتماديــ­ة في فلســطين. في هذا الزمــن الذي يريدونه ملتبســاً وفاسداً وخالياً من القيم والمعاني، نتطلع إلى أخواتنا وإخوتنا فــي الداخل بأمــل مَنْ فقد الأمــل. فتاريخهــم النضالي الناصع قادر على أن يُشــكل بداية يقظة فلســطينية وعربية لمقاومة هذا الزمن.

هل صحيح أن التذاكي يفيد في شــيء؟ وهل صحيح أن رفع شعار أن فلســطينيي داخل الداخل ليســوا في جيب أحد، وأن دورهــم هو التأثير وجني المكاســب عبر تحالفــات بالقطعة مع اليمين الإسرائيلي، سوف يؤثر على السياسة الإسرائيلي­ة؟

يفتــرض هذا التذاكي أن الناس بلا ذاكرة، وأنه يمكن التأثير علــى من أصدر قانون القومية، ويقوم بهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، ويدمر الضفة ويستولي على أرضها، ويحرق غزة!

هــل يســتطيع المقمــوع أن يقيــم توازنــاً مــع القامــع، عبــر استعطافه؟ أم أن التوازن يحتاج إلى تغيير في موازين القوى؟

لا أســتطيع أن أفهم هــذه اللعبة ومعها ألاعيــب من يدافعون عنهــا بلغة «نضاليــة» صارت نافلة، ســوى عبر ربطهــا بالمناخ العام في زمن تطبيع الاســتبدا­د الــذي يصنعه تابعون قرروا أن يُستتبعوا )بضم الياء( بملء إرادتهم.

ولأن زمن نتنياهو فاســد وقذر، فقد اســتخدمت لغة فاسدة فــي معركة منصور عبــاس ضد القائمة المشــتركة، ولهذه اللغة الفاسدة عنوانان: الأخلاق، والطائفية.

أما في الأخلاق، فمــن العجب أن يدّعي حماية الأخلاق من لا يشــارك في النضال ضد التمييز العنصري والاحتلال والقمع. عــن أية أخــاق تتحدثون؟ فالأخــاق في بلاد محتلــة تبدأ في مواجهــة المحتلــن والدفــاع عــن الأرض، وإدانــة الجريمة التي أفلتتها إســرائيل مــن عقالها في المــدن والبلدات الفلســطين­ية. مقيــاس الأخلاق هو الدفاع عن الكرامــة، فمن تخلى عن كرامته لا يحق له أن يتبجح بالأخلاق بلغة ذكورية فاقعة.

كمــا أن الطائفيــة هــي لعبــة الاحتــال، الدولــة الطائفيــة العنصرية التي تحتل فلســطين حاولت كثيــراً اللعب على الوتر الطائفي وعلى فصل المســيحيي­ن عن هويتهم الوطنية، وفشلت. مــن الخوري النداف الذي حــاول أن يخترع هوية أخرى ويدعو إلى تجنيد المســيحيي­ن فــي جيش الاحتلال إلى آخــره... ويبدو أن الندافين الجدد، وقد لبســوا الثوب الإسلامي، يريدون تكرار هذه اللعبة الفاشلة.

هدف القائمة العباسية هو تحطيم الوحدة التي بنتها القائمة المشــتركة. صحيــح أن هــذه الوحــدة لا تزال هشــة، لكن يجب المحافظة عليها ودعمها ونقدها في الآن نفسه.

نحــن نعلــم أن القائمة المشــتركة باتت في حاجــة إلى بلورة رؤيتهــا وشــكلها التنظيمي. كما نعلــم أن الانتخابــ­ات لن تغير في المعادلة الإســرائي­لية الآن، لكن بناء جبهة وطنية فلسطينية راسخة الأركان هو شرط التأثير وشرط خلخلة البناء العنصري الصهيوني.

مع القائمة المشــتركة كي نصد لغة الانحطاط واستعطافات العبيد.

قائمــة منصور عبــاس يجب أن تُهزم فــي الانتخابات، وبعد ذلك يبدأ بناء معادلة جديدة ديموقراطية تحمل عبء الدفاع عن شــعب صمد أكثر من ســبعة عقود في أرضه، وسيبقى صامداً حتى يفتح صموده أفقاً وسط ليل العرب الطويل.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom