Al-Quds Al-Arabi

عن آخر تاء مربوطة تسكن رئتي

-

ذات مرة شــعرت بالقرف والاشمئزاز من كل شيء فانكفأت على ذاتي، كان ذلك قبل أكثر من عشــر سنوات، وكان أهــم من وجدته حولي أثناء ذلــك الاعتكاف وتلك العزلة الاختيارية، وتنبهت لوجوده «علبة الســجائر» التي كانت لا تفارقنــي كظلي، كنت أتأملها دائما فاخترت أن أصنع لها تعبيرا عــن وجودها، الذي كان على الدوام وجودا منكرا لذاته..

فــي هاتف محمول مــن الطراز البدائــي القديم أزرار «نظام تماثلي ما قبل الأندرويــ­د» كتبت على نوتته التي كنت أقوم بحفظها فــي داخله مقاطع نثريــة عن «لفافة التبــغ» بلغت مئة مقطــع، كتاب كامل كتبتــه في هاتف بدائي، ولاحقا نشــرت تلك المقاطع على صفحات منتدى ثقافي في شــكل متسلســل، لكن المنتدى أغلــق واندثر لاحقا، واختفت تلك النســخة التــي كتبتها معه، ولاحقا أيضا جمعتها مرتبة في هيئة كتــاب عنونته بـ»عن آخر تاء مربوطة تسكن رئتي»، ولاحقا أيضا وفي تلك الفترة نفســها قامت مترجمة يمنية بترجمــة الكتاب المؤلف من المئة مقطع إلى اللغة الإنكليزية، وأثناء حديث لي مع أحد الأصدقاء في وقت غيــر بعيد عن تلك الفترة، اقترح عليّ أن يأخذ مني نســخة من الكتــاب ويعرضه على معارفه في شــركة التبغ والكبريت، وقال من المحتمل أن يوافقوا على طباعته على نفقة الشــركة، خصوصــا أنه يتناول موضوع الســجائر ويتعرض لها بالشعر والفلسفة، وقد قام بعرضه بالفعل على مديرة تعمــل في إحدى إدارات شركة التبغ والكبريت، فطلبت منه أن تأخذ النسخة التي زودته بها لتقرأها أولا، وبعــد أن فعلت وقابلها لتخبره بالنتيجة قالــت له : «أعذرني صديقك ليس مجرد مدخن، إنه محشش»، ولو أن الشــركة قامت بتمويل طباعة هذا الكتاب فســوف تقوم المنظمات الإنســاني­ة برفع دعاوى قضائية عليها وعلى المؤلف لإنــه يحرض على التدخين وبشراهة، ويحبب الناس في الســجائر بقصائده التي كتبها عنها.

ضحكت كما ضحك صديقي وربما نظرت إلى الأمر من جميع الزوايا إلا زاوية الفن فقط هــذا ما أعرفه عن هذه القطاعات. أتذكر أن أول مقطع ســطرت به الكتاب يقول: «في هذا العالم الضيق الطافح بكل ما يثير الاشــمئزا­ز، لا يبتسم لي سوى شيء واحد فقط... أنت.»

وفي مقطع آخر:

«أنّــى للموت أن يكون فاجعاً لولا أنــه يأتي بغتةً دفعةً واحدة، ولو أنه كالحياة يوهب أطوارا لكان حريا بالناس أن يبتهجوا مــن أجله، ولأني أود الاحتفاء بالموت احتفاء الناس بالحياة، جعلتكِ الأطوار التي أبلغ بها أسبابه».

وهكذا وعلى هــذا المنوال جرت المقاطــع في الكتاب، والحقيقة أن ما فعلته في تلك الفترة وعشــته كان نوعا مــن التعويض، فالمتنبــي مثلا أنث القــوة وأحلها محل المعشوقة، والنواسي أنث الخمرة وأحلها محل المعشوقة، ابن الرومي أنث الطبيعة وأحلها محل المعشــوقة، وهكذا فعل الرومانســ­يون الإحيائيون وغيرهــم كثير، فما هو الخطأ عندما قمت بتأنيث السيجارة والتعويض بها عن الأنثى على الأقل في تلك الفتــرة. كل تعويض جميل إذا كان هناك نتاج فني يعبر عنه.

أفكــر يوما ما أن أنشــر ذلك الكتــاب، وإن لم يكن في حياتي فسأوصي المقربين مني أن يقوموا بذلك بعد موتي. إنه من صلب أفكاري، والكاتب المحترم لا ينكر أبناءه.

٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom