بعد اتهامه المحكمة بـ«اللاسامية»: «تبليغ» بنسودا لإسرائيل... دعاية انتخابية لنتنياهو أم فرصة لاستئناف السلام؟
■ إن إعــان المدعيــة العامــة لمحكمــة الجنايات الدولية في لاهاي، باتو بنسودا، في الأســبوع الماضي، عن بدء التحقيق ضد إســرائيل بتهمــة ارتكاب جرائــم حرب، لم يفاجئ أحداً من العاملين في مجال القضاء في مؤسســات الدولة. في نهايــة المطاف، عندمــا قدمت طلبها لاتخاذ قــرار أولي قبل ســنة تقريبــاً، أعلنت بنســودا بــأن مكتبها ســيبدأ فــي التحقيــق، مرهونــاً بتوضيــح مســألة الولاية الجغرافية. بهذا، قبل شــهر تقريبــاً، اعترفت المحكمة بســريان دســتور المحكمة، وميثاق روما، على الضفة الغربية وقطــاع غــزة. وإن بــدء التحقيــق بصورة رسمية كان مسألة وقت لا أكثر.
مــن معرفتــي لبنســودا، التــي كانــت المســؤولة المباشــرة عنــي، ومعرفتــي بمن حــل محلهــا، كاريم خــان، لا أعتقــد أن أياً منهما يتــوق إلى اتخــاذ قــرارات مصيرية فــي الموضــوع الفلســطيني بســرعة، هــذا خلافــاً للمدعــي العــام الســابق، لويــس مورنو اوكمبو. وهما شخصان مصغيان وحتى حساســان، ســواء للــرأي العام أو لأصــوات الضحايــا فــي الطرفــن. ولكــن عندما اتهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو المحكمــة بأنها مشــوبة باللاســامية وتميز ضد إســرائيل مقارنــة مع دول مثــل إيران وســوريا، ردت المدعيــة العامــة بنســودا بخطوة اســتثنائية جداً، ونفت هذه الأقوال كليــاً. فــي أوســاط المجتمــع القانوني، تم إطلاق تعبيــر «وات أباوت يو؟» الذي يعني ماذا عنك؟ رداً على توجيه شخص ما اتهاماً لشخص آخر.
أجــل، الادعــاء بالتمييــز لا أســاس له. ليس للمحكمة صلاحية للتحقيق في جرائم ارتُكبت في إيران وســوريا، لأن هذه الدول غيــر عضوة فــي المحكمــة. وبنفــس القدر، لا تريــد المحكمــة التحقيق داخل إســرائيل، بل على أراضــي الكيان الذي هــو فعلياً من ناحية الخيال القانوني يســمى «فلســطين من أجل ميثاق روما.»
في المرحلــة القادمة مــن العملية، تكون المدعيــة العامــة بنســودا ملزمــة بإرســال رســائل تبليــغ حســب المــادة (1( 18 فــي ميثــاق روما إلى جميع الــدول الأعضاء في المحكمــة، وحتى إلــى الدول غيــر الأعضاء
حســب اختيارهــا. فــي هــذه الرســائل تقوم بدعــوة هذه الــدول، منها إســرائيل، مــن أجــل التحقيق فــي الاتهامــات، وذلك بدلاً من مكتبها. وســبب هــذا الطلب هو أن المحكمة، حسب دستورها، لا تقوم بمعالجة الاتهامات بارتــكاب جرائم حرب في المكان الذي توجد فيــه دولة قادرة، وحتى معنية، بالتحقيق فيها.
من تاريخ استلام رســالة التبليغ، يكون أمام دولة إسرائيل شهر كي تقرر إذا كانت ســتلبي دعوة المدعية العامــة. وإذا وافقت إســرائيل وأخذت على عاتقهــا التحقيق هذا الإجراء يســمى «ديفيرال» فلن تكون هنــاك أي إمكانية لمعارضة بنســودا، إلا إذا اعتقــدت أن الأمــر يتعلــق بمحاولــة لخداع المحكمــة. عندها تتوجه إلــى قضاة المحكمة وهــم ســيبتون في الأمــر. وإذا اســتجابت لهذه الدعوة، فإن دولة إســرائيل ســتواجه انتقاداً شــديداً مــن قبل النيابــة العامة في لاهاي، لكن على الأقل لن يحلق فوق رأسها تهديد إصدار أوامر اعتقال دولية.
علــى الرغــم مــن أن إعطــاء صلاحيات تحقيــق تبــدو جذابة، إلا أن هنــاك صعوبة في تنفيذها. يجب التذكر بأن المدعية العامة بنســودا أشــارت إلى نوعين من الاتهامات حتــى الآن: الأول، هــو اســتخدام القــوة المفرطة، والثاني هو مشــروع الاســتيطان. أما ما يتعلق باستخدام القوة الزائدة، فمن المرجح أن لن تكون لدولة إســرائيل مشكلة فــي تولــي التحقيق فــي أحــداث «الجرف الصامد» وأحداث إطــاق النار على حدود غزة، أو على الأقل لن تجد صعوبة في إعادة فحص تحقيقات كهذه، التي اســتكملت في الســابق. ولكن حول مشــروع الاستيطان، فلن تكون الحكومة قادرة على التحقيق في سياسة استمرت لسنوات كثيرة، حتى أنها لا تعتبر جريمة جنائية في القانون المحلي.
إن توقيــت الإعــان إشــكالي بشــكل خــاص. المدعيــة العامــة غيــر مقطوعة عن سياســة إســرائيل الداخلية. وربما تعرف جيــداً أن رئيس الحكومة بنيامــن نتنياهو سيســتخدم إعلانهــا كدعايــة فــي حملته الانتخابيــة. وإذا قامت بنســودا بإرســال رســائل التبليغ في الأيــام القريبة القادمة، وقبــل موعــد الانتخابــات، ســيكون علــى إسرائيل الإعلان عن موقفها في موضوع الـ «الديفيرال» أثناء تشكيل الحكومة الجديدة وانتخاب الشــخص الذي سيترأســها. يتم إرسال رسائل التبليغ هذه كالعادة بصورة سرية، لكن جرت العادة حتى الآن بإرسالها خلال بضعة أيام من موعد الإعلان الرسمي عن بدء التحقيق.
لذلــك، مصلحــة إســرائيل أن توضــح للمدعيــة بنســودا علــى الفــور، ومن خلال القنوات الدبلوماسية المقبولة، بأن عليها ألا ترسل رسائل التبليغ هذه إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة. لأنه من غير المستبعد أن تقــوم الحكومــة الجديدة بفحــص إمكانية إجراء تحقيق محلي علــى نحو إيجابي في موضــوع اســتخدام القوة المفــرط. كما أنه من غير المســتبعد، وحتى مــن المرغوب فيه، أن تطالــب الحكومــة الجديــدة بالتوصــل مع الفلســطينيين إلــى اتفاق حــول تأجيل التحقيــق فــي موضــوع المســتوطنات في إطار اســتئناف محادثات الســام. ويعتبر هذا الإجراء إجراء يخــدم مصلحة العدالة، وحتــى يمكن أن يســتقبل بمباركــة من قبل مكتب المدعية العامة في لاهاي، التي تشجع منــذ ســنوات كثيــرة العملية التي تســمى «الاستكمالات الإيجابية» استغلال تهديد التحقيــق الدولــي من أجــل إقنــاع أطراف الكفاح المسلح بوضع السلاح.
فــي موازنــة الاعتبارات، على إســرائيل ألا تفــوت هــذه الفرصــة، لأنهــا تشــكل مبــرراً ممتازاً لاســتئناف العملية الســلمية ودفعهــا قدماً عن طريق التعاون مع الطرف الفلسطيني. ولكن إذا تم رفض الدعوة التي سترســل إلى إســرائيل، فلن يكون مفاجئاً أن تعطــي المحكمــة إشــارات بعد ذلــك بأن الحكومة لا تلوم ســوى نفســها فــي كل ما يتعلق بتصدير التحقيق إلى لاهاي.