Al-Quds Al-Arabi

هل استسلمت الكونية الفرانكوفو­نية أمام سياسات الهوية الأمريكية؟

الحرب الثقافية في فرنسا

-

تشــهد فرنســا حالياً معركة ثقافية، لا يقتصر تأثيرها في متكلمي الفرنسية فحســب، بل لها أبعاد عالمية، متعلقة بالأيديولو­جيا المعاصرة برمتها، فبعد ســنوات من الحديث عن خطر الإســام السياســي و»الانفصالية الإســامية»، بدأ مثقفون وسياسيون فرنســيون يستشــعرون الخطر، من مصدر لم يكن مألوفاً الحديث عنه: الأيديولوج­يــا الأمريكية، التي توصف بـ»اليسارية الليبرالية»، فالنزعة الهوياتية الإســاموي­ة، التي يراها البعض مهددة لوحدة الأمة الفرنســية، ولمبدأ المواطنة الجمهوريــ­ة، لا تأتي من التراث الإســامي، أو تنظيرات الأصوليين المسلمين فحســب، بل تجد غطاءهــا الأيديولوج­ــي الأهم في شــبكة معقدة من وســائل الإعــام والمنظمات غير الحكومية والأكاديمي­ات، التي يتمركز ثقلها الأساسي في الولايــات المتحدة، وتــروّج لسياســات الهوية والنســبوي­ة الثقافية، ونزعة التظلّم على المســتوى العالمي.

انعكاســات هذه المعركة الثقافيــة، وصلت لأعلى المســتويا­ت في البلاد، فقد عبّر الرئيس الفرنســي إيمانويل ماكرون، عن اســتنكاره لـ«بعض نظريات العلــوم الاجتماعيـ­ـة، المســتورد­ة بالكامــل مــن الولايــات المتحدة »، التي تركّز علــى الهوية والعرق والخصوصيــ­ة الثقافيــة، مثــل دراســات مــا بعد الكولونيال­ية. وأكد، في أكثر من مناســبة، أن فرنسا دولة - أمــة، لا تقوم على التصنيف العرقي الثقافي، الذي تتســم به الــدول الأنكلوفون­يــة؛ فيما أمرت، فريــدرك فيدال وزيــرة التعليم العالي الفرنســية، بإجــراء تحقيق عــن الناشــطين الأكاديميي­ن الذين «يثيرون التصدّع والانقســا­م»، واعتبرت «اليســار الإسلامي» الفرنســي، أي اليســار الهوياتي، الُمتهم بالتعاطف مع الإســاميي­ن، أشبه بســرطان أصاب الثقافة والسياسة الفرنسية.

هــذا الجدل الثقافي والسياســي الكبير وصل إلى ذروة جديــدة، بعد إعــان مجلة «ديبا» الفرنســية العريقــة، وهــي مجلة ثقافيــة يســارية، لم تخضع لتأثيرات اليســار الهوياتي، وكتب فيها عدد من أهم المفكرين الفرنســيي­ن، توقفها عن الصــدور. وهو ما فسّــره كثيرون بأن «ديبــا» خســرت معركتها أمام الهوياتيين، ذوي المزاج، وربمــا الدعم، الأمريكي. إلا أنه لا يمكن تبســيط الموضوع بصراع ثقافي فرنسي -أمريكــي، أو حتى أوروبــي قــاري - أنكلوفوني، فنظريــات دراســات التظلّم وسياســات الهوية لها جمهور فرنســي وأوروبي واســع، وترسّــخت في عدد كبير مــن الأكاديميـ­ـات والمؤسســا­ت الثقافية الفرنســية العريقة، فضلاً عن المجموعات اليسارية، والمنظمات غير الحكومية العاملــة في البلاد، كما أن اعتبار المســألة صراعاً بســيطاً بين تقليدين ثقافيين مســتقلين، يضيّع الجذور الاجتماعيـ­ـة والتاريخية للتحول الأيديولوج­ي نحــو الهوياتية، في ما يُعرف بـ »المنعطف الثقافي .»

في كل الأحوال يمكن القول، إن الجدل الفرنســي الحالــي قد يكون مفيــداً جداً علــى الصعيد العربي، خاصــةً عندما يــدرك كثير مــن المثقفــن العرب أن الأيديولوج­يــات الهوياتية ودراســات التظلّم، التي يظنونهــا مناهضــة لـ»لمركزية الغربيــة» و»الرجل الأبيض»، تصنّــف أوروبياً، في كثير مــن الأحيان، بوصفها ليســت مركزية غربية فحســب، بل مركزية أمريكية بيضاء بروتســتان­تية، تفرض نفســها حتى على بعــض دول العالــم الأول. فما أهــم معالم هذه المركزية؟ وما البنى الاجتماعية والثقافية التي تمكّنها من فرض نفسها عالمياً؟

كونية مناهضة للكونية

تُبــدي أيديولوجيـ­ـا التظلّــم الهوياتي، ســمات متناقضــة، فهي من جهــة تحتفــي بالخصوصيات الثقافية، وتناهض الكونية والإنســان­وية، بوصفهما غطــاءً يخفــي الهيمنة الغربيــة البيضــاء؛ وتروّج لنفسها، من جهة أخرى، بشكل تبشيري على المستوى العالمي، لدرجة تبدو مناهضتها نزوعاً انعزالياً رجعياً، يُربط على الأغلب باليمين المحافظ، وفي الوقت نفسه صار يمكــن لجهات، اعتُبــرت رجعية طيلــة العقود الماضية، مثل الإســاميي­ن أو حتى بابا الفاتيكان، أن تكتســب ســمتاً تقدمياً، بمجرد تكرارها لبعض صيغ الأيديولوج­يــا الهوياتية، التي أمّنت ســنداً لبعض مواقفها، مثل مناهضة التنوير الردايكالي اللاديني، والعلمانية وحريــة التعبير. ما يدفع للتســاؤل عن حركات الخصوصية، التي باتت «تقدمية»، لمجرد أنها نالت الشرعية من المركز الغربي.

يمكن تفسير هذا التناقض إلى حد كبير بالتغيرات التي أصابت المدن الكبرى، خاصة في الدول الغربية، فالبورجواز­يــة والبروليتا­ريــا، بوصفهمــا طبقتين لذاتهما، حملتــا أهم الأيديولوج­يات السياســية في الشــرط الحداثي، لم تعــودا موجودتين سياســياً بشــكل فاعل، فقد تم اســتبدال الحيوية السياســية للبورجوازي­ــة، في إدارة جهــاز الدولــة، بالتحكم البيروقراط­ــي - التكنوقراط­ــي، وســلطة الوكلاء والمديرين، في حين زالت الطبقة العاملة الكلاســيك­ية مع نزع التصنيع في الغرب. يوجد تعليق طريف على هــذا، وهو أن نبوءة ماركس حــول الصراع الطبقي، الذي قد ينتهي، حســبه، بانتصار إحــدى الطبقتين المتصارعتي­ن، أو فنائهما معاً، قد تحققت، فالصراع بين البورجوازي­ة والبروليتا­ريا في الغرب، قد أدى لفناء الطبقتين سياسياً.

تفكك مواطن العمل واللقــاء الاجتماعي التقليدية في المدن الكبــرى، وانحلال وخصخصة الحيز العام، أدى لنشــوء فئات اجتماعية جديدة، يمكن عدّها، من حيث الشــرط الطبقي الموضوعي، على البورجوازي­ة أو البروليتار­يا، ولكنها لا تملك الأســاس الاجتماعي والمــادي والأيديولو­جــي لوعــي وضعهــا الطبقي، فتميل إلى تعريف نفســها هوياتياً وثقافياً، في شرط اقتصــادي ازدادت به أهميــة الإنتاج غيــر المادي، والخصائــص الفرديــة والثقافية للعاملــن؛ وتقوم فيــه الأجهــزة الأيديولوج­ية، مثل وســائل الإعلام والمؤسســا­ت الثقافيــة والمنظمات غيــر الحكومية، بصياغة الــذوات الفردية، بما يتناســب مع منظومة الهيمنة السياسية والاجتماعي­ة القائمة.

هنــا لا تختلــف باريس كثيــراً عن نيويــورك أو لوس أنجلس، رغم عراقة التقليد الثقافي الفرنســي، وترسّخ القيم الجمهورية سياسياً، ولذلك من المتوقع أن يواجــه ماكرون وفريقــه كثيراً مــن الهوياتيين، حتى لو تمكّــن، بمعجزة ما، من ســدّ الحــدود أمام التأثير الثقافي، المقبــل من الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي.

إلا أن زوال الشكل التقليدي للطبقات الاجتماعية لا يعني نهايــة الصــراع الطبقي، وبعــد عقود من التنظير، حول تقادم النموذج الاجتماعي التحليلي، القائم على المعطيات الطبقية والمادية، يبدو النموذج الهوياتي ليس عاجزاً فحسب عن استيعاب وتحليل الاضطرابــ­ات الاجتماعية الكبيرة، التي يعايشــها كثير من المجتمعات، بــل عائقاً أيديولوجياً ومنهجياً أمــام أي محاولة جديدة لإنتــاج نظرية اجتماعية، أو ســعي للتغيير السياســي. ينظر كثيرون اليوم بنقمة بالغة إلى هيمنة سياســات الهوية، لأســباب متعددة، وليــس فقط في العالم الفرانكفون­ي، بل في الدول الناطقــة بالإنكليزي­ة أيضاً، حيث تدور معركة ثقافية شــبيهة لما يحدث في فرنســا، وإن اختلفت الأدوات وأساليب الخطاب. بهذا المعنى فنقمة بعض السياســيي­ن والمثقفين الفرنســيي­ن تحمــل بدورها ســمات كونية، رغم تشــبّثها أحياناً بـ»خصوصية الأمة».

تزوير «النظرية الفرنسية»

الطريف فــي هذا الصــراع الثقافــي أن كثيراً من معارضي الهوياتية والتظلّــم في العالم الأنكلوفون­ي يعتبرونهمـ­ـا، للمفارقــة، غــزواً ثقافيــاً فرنســياً، تعرّضــت لــه الأكاديميـ­ـات والمؤسســا­ت الثقافية الناطقة بالإنكليزي­ة، ذات التقليــد الوضعي والمادي والبراغمات­ي العريق، في الثمانينيا­ت، بعد اســتيراد «النظريــة الفرنســية»، أي بدء المثقفــن الأمريكيين باكتشــاف أعمال مفكرين فرنسيين مثل فوكو وبارت ولاكان، وانتقــال دريــدا للتدريــس فــي الولايات المتحدة. ينظــر هؤلاء للاحتجاج الفرنســي الحالي على طغيان المناهج الأمريكية بمنطق «هذي بضاعتكم رُدّت إليكم .»

إلا أن هذا المنظــور قائم على الأغلــب على اطلاع ضعيف على النصوص الأصلية لما يســمى «النظرية الفرنســية»، فالمفكرون الفرنســيو­ن الكبــار كانوا معارضــن جذريــن للهوياتية، لدرجــة رفض فيها فوكو، المثلي جنسياً، المشــاركة في مسيرات المثليين، واعتبــر بوادر التظلّــم، التي بدأت تظهــر في أيامه،

نوعاً من تعميم «اعتراف» البشــر حول أجســادهم وذواتهــم، وهو أســلوب عممته الســلطة الحديثة، بدلاً من الاعتراف الكنســي التقليدي. فيما حذّر جيل دولوز المضطهدين من تشكيل «آلة حرب جديدة» في مواجهة آلة الحرب السلطوية، وبالتأكيد فإن ما وصل إليه خطاب التظلّم حالياً، كان سيثير سخرية دريدا، رائد النزعــة التفكيكية. يحمل «تحريــف» النظرية الفرنسية إذن ســمات واضحة لثقافة أمريكية قائمة على الفردانية والميل للفصــل العنصري والهوياتي، فضلاً عــن النزعة التطهّريــة البيورتاني­ة، الممتزجة، في الوقت نفسه، بميل للذائذية الآمنة والاستعراض

، وبهذا المعنى فربما تكتسب مناهضة الأمركة ثقافياً دوراً مهماً في نقد سياسات الهوية.

بؤس الوطنية

تبدو وطنيــة ماكرون، فــي مواجهــة التأثيرات الثقافية الأمريكية، متناقضة مع الادعاء الأساســي، الذي تتأســس عليه القيم الجمهورية الفرنسية: أمة المواطنــن، التي تقوم على المبــادئ الكونية للإعلان العالمي لحقوق الإنســان والمواطن. هذه القيم لا يمكن الدفاع عنهــا منهجياً، من خلال نســبها لخصوصية الأمــة الفرنســية، فهي صيغــت كي تكــون كونية، تناسب الفرنســيي­ن، كما تناســب الهاييتين والعرب والأمريكيي­ن وغيرهم. وبدلاً من الميل الفرنسي العريق لتصديــر الثورات، يبــدو أن الجمهورية لم تعد تملك ســوى التقوقع الرجعي على الــذات والتقليد. ولعل هذه أكبر هزيمة ثقافية لمــن يدّعون حمل قيم التنوير الفرنســي، فقد باتوا يفكرون بمنطق «الخصوصية» نفسه، الذي يروّجه خصومهم الهوياتيون.

رغم هذا فلا يمكن اختصار الحراك الثقافي الكبير، في فرنسا وغيرها من الدول، بهذا المنطق، وربما كان المؤشر الأهم، في كل ما يحدث، أن مناهضة الهوياتية والتظلّــم، لــم تعــد مقتصــرة على بعــض المثقفين الغاضبين، بل باتت من مســائل السياســة والحياة اليومية، ويشارك فيها الجميع، ما يمنح بعض التفاؤل بتغييــر جذري في الخطاب الثقافــي والأيديولو­جي السائد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom