Al-Quds Al-Arabi

لغات خارج مدارات الكوني

- رشيد المومني*

طبعا، لا مــكان للحديث عن الفكر بعيدا عن مســكن اللغة. فالأفكار تستمد حضورها من خلال تجسدها في الملفوظ والمكتوب. كما أن اللغة هي ما يمنح الأفكار الحق في الوجود، لكونهــا الرحم الذي تتخبط فيه نطفة القول. فما من فكرة إلا وتستقل بجيناتها اللغوية التي تشكلت بها ومنها، حيث ســيكون من المســتحيل الحديث عن تواجد أفــكار بمعزل عن هذه الجينات، كما سيكون من غير الممكن فصل الأفكار عن لغاتها.

وضمن هذا الســياق، تحضر الرؤية الكونية للغة، بما هي رؤية كونية للإنسان، معها تنمحي الحدود بين الذوات واللغات، والأعراق والأجناس، في أفق توسيعها للفضاءات المشــتركة. وتتجسد أهمية هذا الانفتاح، في هاجس انتقام مضمر، صادر عن الهوامش الثقافية والحضارية، كرد فعل منها على لعنة الدونية المطاردة بها من قبل المراكز.

إلا أن هــذا الانفتاح الســعيد بقناعاته، لا يمكن بحــال أن يحجب عنا الإكراهات التي تتخلله، والمجســدة فــي ضرورة امتــاك الهامش للغة كونية، بما يستدعيه هذا الامتلاك، من إلمام بمقوماتها العلمية والإبداعية. باعتبــار أن تأشــيرة الكوني لا تســلم على بيــاض، ما لم يكــن حاملها مستأنســا بالخصوصيات الدلالية التي تســتمد منها اللغات ســلطتها. وهي الســلطة ذاتها التــي تتيح للمتحدث فرصة الترحال، اللامشــرو­ط في مختلف الفضاءات الكونية القاصية والدانيــة. وبالتالي، فإن الثراء المعرفي للغــة، هو بمثابة إطار موضوعي، يتيح لها إمكانية التفاعل خارج محيط الخصوصية المنغلقة على ذاتها. ما يســتدعي الاشتغال الدائم على هذه الخصوصية، عبر توســيع اهتماماتها المعرفية، وأيضا عبر انفتاحها اللامحدود علــى مختلف التجارب الثقافية، التي يســتمد منها المشــهد الحضاري كونيته.

ولا مــراء فــي أن الوعي بأهميــة الحمولــة الدلالية للغة فــي بعدها الحضاري الواسع، هي بمثابة خطوة أساسية لاستشراف الآفاق الكونية، حيث يمكن القول، إن سوء اســتيعاب الأدوار الحقيقية المنوطة بها ضمن هذا الإطار، سيجعل منها عائقا حقيقيا، يحول دون نسج أي علاقة عملية، ســواء مع الذات أو مع العالم. وهي الحالــة التي تجعل من اللغة الجاهلة بأدوارها، سجنا محكم الإغلاق، ودليل إقامة جبرية بعيدة المدى، لاغتراب قسري مأساوي ودائم. إنها تعلن جراء ذلك، عن حتمية انعدام أي شروط موضوعية، من شأنها مدّ جسور التواصل والحوار مع الآخر، والآخر هنا، ليس في واقع الأمر، ســوى ذلك المدخل الرمــزي، الذي يفضي عبوره إلى عوالم جديدة، بكل مــا تعنيه الجدة من انفتاح على مقومات إنســانية، ثقافية، وحضاريــة، معززة باقتراحاته­ا المضافة. كمــا أن فعل العبور هو المقابــل الموضوعي للتأهيل الثقافي، الذي يعني بالنســبة للذات، امتلاك ما يكفي من الإواليات المعرفية، الكفيلة برفع الحواجز الفاصلة بينها وبين غيرها من الهويات والخطابات المحايثة والمزامنة لها.

إن اللغــة على امتــداد صيرورتها، معرضة باســتمرار لشــتى أنواع الصدمات. قد يكون بعضها عاملا أساسيا من عوامل تطويرها وتحديثها، كما قد يكون بعضها الآخر سببا مباشرا من أسباب ترديها وشللها. ويتعلق الأمر في هذا السياق، بشــروط المد والجزر الثقافي، المساهمة موضوعيا في بلورة وضعيتين متضادتين، تتسم أولاهما بالحركية والدينامية، فيما تعكــس الثانية وضعية الركود والانتــكا­س. وإذا كانت الوضعية الأولى بمثابة النموذج الحي، المعبر عنه في التفاعل الإيجابي والبناء للشــرائح المجتمعية كافة، فــإن الوضعية الثانية، تعنــي المراوحة في حيز تواصل سطحي، لا يتجاوز حدود تلبية الحاجيات الأولية والبسيطة دون غيرها.

فالفكر الفلسفي، على ســبيل المثال لا الحصر، شأنه شأن باقي الحقول المعرفية والإبداعية، يظل مهددا بتفسخه، وتلاشيه، ما لم يمارس حضوره اللغوي المتعــدد والمتنوع، في مختلــف المرافق المجتمعية والإنســان­ية. واقتناعنا بهذا الشــرط يدعونا للتعامل مع العمــق الدلالي للغة، بوصفه النســغ الذي تتجدد بحيويته حياة الإشــكالي­ات باهتماماته­ا وتجلياتها كافة.

من هنا يمكن القول، إن المســتقبل المؤجل للكائن، يكمن في قدرته على اكتشــاف المزيد من أســرار اللغة، بموازاة تتالي اكتشافه لأسرار الكون. وهي في اعتقادنا الخطوات المفضية مجازيا إلى الاقتراب من لغة الوجود، ما دام الاقتراب الفعلي، يظل إلى حد ما، في حكم الاستحالة المنتمية، شئنا أم أبينا، إلى جماليات الأحلام التي يجد فيها التخييل الميتافيزي­قي ضالته الكبرى.

وضمن هذه الجماليات، يمكن الحديث عن مقولة «الكمال الإنســاني» بوصفه كمالا لغويا، تنفتح أمامه مغاليق الغيب وأســراره، لكن بعيدا عن هذه الرؤية المخملية والتخييلية لمســتقبل الكائن اللغوي، تحضر كونية مضادة، قوامها شراســة القتل المستبدة بآلية اشــتغال اللغة، على ضوء منطق القتل الســائد في العلاقات البشرية غير المتكافئة، التي تنعدم فيها قيم الاعتراف بالآخر. ما يوحي بمراوحتها لحدودها التقليدية. وأعني بها حدود العي، العجز والتيه. وهي أعطاب من شأنها التأثير سلبا في زوبعة أنســاقها، والحيلولة دون تماســك حركيتها، كي تظل فــي نهاية المطاف، منفصلة تماما عن المسالك المؤدية إلى ما يمكن تسميته بعقل الوجود.

إن المشاركة الإقليمية الحقيقية - على المستوى اللغوي - في تأثيث المشــهد الكوني، تســتدعي التوافر العملي للقوانين الكفيلة بتحقيقها. ولعل أهم هذه القوانين، اتســاع دائرة التواصل الثقافي والمعرفي، في مناخ تنويري وعقلاني، يؤهلها لأن تكون مجالا حقيقيا لتفاعل مختلف الشــرائح المجتمعية، لأن اللغة لن تكون مؤهلة لممارسة مهام التوصيل الثقافي، في حالة ما إذا ظلت حبيسة فضاءات مجتمعية ضيقة ومغلقة. بمعنى أنها بحاجة ماسة إلى منسوب عال من الأوكسجين الرمزي، الذي يستمد مكوناته وعناصره، من التلاقحات التنويرية المتعددة المشارب والأنســاق. ومن المؤكــد أن التغييــب الممنهج أو التلقائــي لهذا البعد، ســيحول دون ممارسة المكون المعرفي لأي شــكل من أشكال حضوره. مــا يؤدي إلى إطفاء جذوتــه، وإدراجه ضمن ســياق العابر والمؤقت، المفرغ من أي قيمة معرفيــة مضافة. وهي الظرفية التي تهيمن فيها حالة الاغتراب الثقافي والإبداعي لدى النخــب المعنية بالهم التنويري ككل، والتي تكون مشــوبة بغير قليل من الاختــالا­ت والتصدعات الناتجة عن اصطدام الأحــام اليوتوبية، بصخــرة الواقع الغــارق في ظلمة التجهيل. وهو موضوع يحتــاج إلى مقاربة خاصة، تضع المهتم في قلب التجاذبات العنيفة، التــي تعيش النخب المثقفة نهبا لها، بفعل القطيعة الجذرية القائمة بينها وبين واقع مجتمعــي، غير معني مطلقا بمنجزها الفكري أو الإبداعي. كما تضع المهتم ذاته، في قلب تلك المكائد والحروب الدائرة رحاها بين فصائل لا حصر لها من الخطابات المتنافرة، من حيث توجهاتها ومرجعياتها.

نستحضر في هذا الســياق، دوامات الذباب السلطوي والتسطيحي، التي تحاصر الأصوات المؤرقة بهاجس الســؤال، في بحثها الدؤوب، عن أفق لغوي، يخلــو من أعطاب الأمية ومن ظلمــات التجهيل. وبالنظر إلى التردي الشامل، الذي تعيشــه المجتمعات العربية على جميع المستويات، فإن هذا الأفق اللغوي، ســيظل مؤجلا باســتمرار، مكرسا بذلك استحالة انتماء نخبه إلى الفضاءات الكونية، التي أمســت - بفعل تمنعها عن أي تحيين محتمل - مجرد ملاذات تخييلية، تســتضيف أحلامها وكوابيسها. وتوخيــا للحد الأدنى من الدقــة والموضوعية، لا مناص مــن القول، إنها ملاذات استشفائية، «تتطهر» فيها النخب إلى حد ما، من لعنة محاصرتها من قبل ســدنة خصوصيات لغوية، ســعيدة بعماها، وســعيدة بإقامتها الإرادية خارج التاريخ.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom