Al-Quds Al-Arabi

تنوعات الفوتوغراف­ية في أعمال العراقي صفاء ذياب

-

■ الفنــان الفوتوغراف­ي صفــاء ذياب يعتمد البلاغة المرئية فــي اختياراتــ­ه الفنية. بمعنى يعتمد التنوع. وهو ســمة ذاتية، تخضع للبنية المعرفية للمصور، لأنها تتعلق بالرؤى، ســواء في الاختيار أو التعامل والممارسة. وهذا يرتبط أيضاً بالذائقة والموهبــة. فالصورة من منطلق كونها عملاً إبداعياً تخضع لمكون المصور المعرفي وقدرته على بناء عمارة العمل الإبداعي هذا. فهو إنما يخضع لجدلية وجــوده وعلاقته بالحياة، التي تشــكل علاقة اســتثنائي­ة، هي استثنائية المبدع المطلقة.

وهذا بطبيعة الحال يتجســد خلال مكونات الصورة ســواء كانــت بالأســود والأبيض أو الملون ) الضوء والعتمة(. فهي خاضعة للرؤية. ففنان الفوتوغراف­يــة يبني عمارته الذهنية عبر تجاربه اليومية وممارساته المتوالية التي تخلق تراكماً كمياً، يــؤدي إلى تراكم نوعي، متمثلاً في الصورة التي تحمل كل ظواهر التجليات الذاتية في مراقبة حركة الحياة. فالمصور يعيش ويرى ويُســجل بالضوء والظِل ما يراه ويعيشــه مع الآخرين. فبعين الكاميرا يرى الأشــياء بحراكها وحيويتها وعلاقاتها المتشعبة. فهو إنما يُسجل حقائق الحياة، لكي لا يســدل النسيان ستارته عليها. فالزمــن جار والمكان تجري عليه تغيرات عفوية ومقصودة، تصل حد المحو، فقط الصورة من يحتفــظ بواقع الزمان والمكان مهما ابتعدا أو اقتربا.

من هذا المنطلق نرى صورة الفنان ـ الشــاعر صفــاء ذيــاب، تعمل علــى اســتعارة وظائف وجماليات الشــعر، باتجاه وظائف وجماليات الصــورة، خالقاً شــعرية واضحــة لصورته. الشعرية تتخلل العلاقات الداخلية بين حيوات الصورة. فالأشــياء كل الأشــياء التــي تكون الوجود تضمر شــعرية ذاتيــة، والمبدع وحده مــن يعكس هذه الشــعرية. وصفــاء يمزج في صورته ما يبلوره الشــعر والفن المرئي، والنظر خلال عــن الآلة. فهــو لا ينظر إليهــا على أنها وســيلة خاضعة للاســتعما­ل الآلي فحسب، بل منشطة للذهن البشــري، لأنها تمتلك مستويات

من الحساســية، فهي جهاز وآلــة عاقلة بمفهوم الإبداع، واســتعمال­ها يخضع للبنيــة الذهنية للمصور، أي أنها قادرة على التجاوب مع الذهن البشري وبالعكس.

وهذا ما نجده في صــورة الفنان، مؤمنين في كونه يتداخل في اختيار اللقطة؛ ما بين الاختيار الشــعري والبصري في اللحظة نفســها، التي يتعامل بها مع كلا الفنين )الشــعر+ التصوير(. وبهذا اكتســب ثنائيــة الازدواج فــي التعبير، يلوح خلاله )الشــعرــ الصورة( و)الصورة ــ الشعر(. وهي ظاهرة غير مربكة للفنان الشاعر، بل يستمد أطراف وروحية كلا الطرفين من نسغ بعضهما. فالفنان وهو يمــارس خاصية التنوع في صوره، إنما يســعى لملء الفراغات المعرفية، فالصورة معرفة، وممارســته­ا زيــادة وتراكم فــي طبقات المعرفــة. لذا فالتنوع ســمة مرافقة لمصورات الفنان. واختياراته دليل سعة رؤيته، وتمكنــه من اســتعمال ملَكته الفنيــة المدعومة بطاقته الشعرية.

إن الذي يؤشر هذا التنوع هو طبيعة المحاور التي وجدنا في تصنيفها نوعاً من رفد المســعى وتأكيد حقيقته الفنية الذاتية والموضوعية. مما يُسهل لنا مهمة قراءة كل صورة ضمن محورها، وفق ترتيب قدرتنا على القراءة المنظمة والقابلة للتدرج والتوســع لرؤانــا أيضاً، ســواء لفن الصــورة عمومــاً، أو لصورة الفنــان خاصةن فقراءة الصــورة فعل يُفيــد التراكــم المعرفي للقارئ البصري.

لغة المضمر

لا شــك فــي أن البورتريه فعل فنــي يحتاج إلى مهــارة ودربة في الاختيــار لزاوية اللقطة. إنــه امتحان فني ودليل على قوة اســتيعاب ما يشــكل مســتلزمات البناء الفني. وهذا بطبيعة الحــال يحتاج إلــى التوفر على أهــم ما يصعد بالعمل الفني، وهي الموهبة. الموهبة التي تتذرع بالمعرفة الصاعدة والحدس المرهف. ونعني بهما تنوع أسس المعرفة، ولعل فن البورتريه يتطلب فراســة نفســية وأنثروبولو­جية فــي تحليل تقاســيم الوجه، ودراسة طبيعته خلال التعمق في أجزائــه، والوقوف على أهم ما يُســاهم في التقــاط أهم المؤثرات فيه. لــذا نجد أن الصورة تســتعير مقوماتها الفنية من طبيعــة تأثيرات الشــكل، وبالتالي تعمل على رســم الملامح، بما هو خالق للتأثير الإيجابي والســلبي. إذ يمكن اعتبار فن البورتريه فن الفراســة في دراســة مجموع قســمات الوجه التي هي نتاج مجموعة انفعالات خاضعة لأفعال خفية.

نحن خلال النموذج فــي الصورة نكون أمام تجســيد مرهف يقــدم عينة صورية لشــريحة إنســانية. فهي بذلك ســردية بــكل تفاصيلها. ســردية تخضــع لرهافة حــس الرائــي الأول )المصورــــ الفنــان(. إنها خلــق وتأصيل، ثم توثيق لما هو إنســاني في مجمــل الوجود، بما فيه المســرة والتوجع التي تخلقها حساســية الوجود، وســط كون مضطرب ومخاتل بسبب إصابته بخلل المنطــق والاعتدال وانتفاء قدرته علــى خلــق القيــم الاجتماعية. إن اســتعمال مكونات الصورة بصــورة متعادلة، يؤدي إلى الصعود بمفرداتهــ­ا نحو حالات مــن التعبير، تفوق الكثير من الوســائل في التوثيق، ســواء في اللغة أو التشــكيل. فالصورة الفوتوغراف­ية لها اســتقلالي­تها. وهذه الاستقلالي­ة في التعبير ترتبط بمفرداتهــ­ا. غير أن الفنــان الحاذق من يســتطيع التعامل مع هذه المكونات، بما يُعطي بعداً فنياً مركزاً.

ولعــل صفاء يُقيــم مثل هــذه المعادلة التي اســتعارت من الشــعر الكثير، كمــا ذكرنا، فهو شديد الحساســية في التعامل مع نموذجه، لذا نجده يتقن حرفة توزيع فيض الضوء، ورســم حواشــي الظِل أو خطوط العتمــة. وفي صورة احتوت وجــود رجل يوجه نظــره إلى جهة ما مركزاً مع إشــارة من كفه. كما لو أنه يُجيب على ســؤال. الذي يبــرز أكثر في الصــورة خاصية توزيع ثنائيــة التعبير. فالضوء يفتح جانبا من الرأس، وحصراً الوجه، بينما الظِل يغمر الجانب الآخر. والمحصلة من هذا التعامل، هو تشخيص الوضع النفســي للنموذج. فانفعاله فيه هدوء،

ومزاجه شبه مســتقر. إذ توحي اللقطة بجملة حالات في حالــة واحدة، هي الاستســام إلى هاجــس الآني في الحوار والاســترخ­اء. فليس ثمــة كثافة على حســاب قلة، بــل هنالك تظافر بين أطــراف الثنائية، قصد التعبيــر عن المزاج للنموذج من جهــة، وتحقيق نمــط فني صاعد ومتوازن من جهة أُخرى.

وبهذا تتحــول لغــة الصورة إلــى مفردات كلامية تُثري ملَكــة المتلقي، ولا توقف تصوراته وتوقعاتــه وهــو يواجــه نموذجــاً كهــذا. وهذه واحــدة مركزيــة من وظائــف الصورة الفوتوغراف­ية، وهي الإثارة، قصد إجراء الحوار مع ما نرى، مســتعينين بذاكرتنا وقوة نظرتنا، بما يتجاوب جدلياً مع النــص البصري، فالذي عُرف عن الروائي ســعد محمد رحيم حساسية بنيته المعرفية التي قادته إلى السرد، فقد تعامل الفنان وهو يلتقط صــورة بورتريه له، مراعياً الدقة التي تسترشــد بالأهم فــي صياغة نص الفوتوغراف­يــة. والذي حصل هــو عكس بنية الهدوء التي امتــاز بها، الهدوء المرتبط بالتأمل، وصياغة الحالة الســيكولو­جية. فقط استعان بمكونــات الصورة كي تتظافر مــن أجل التأكيد على ظاهرة نفسية ملازمة للنموذج.

التوزيع للضوء والظِل برز بســبب تعادله، وتلقائيته فيــه نوع من الاســتقرا­ر الذي عليه أثناء تنفيذ اللقطة. فهي لقطة غير عفوية، لكنها تأثرت بحواشي التشكل للصورة، كذلك مركزية أطراف الثنائية. فهي لقطــة موديل متقنة تؤكد حالة الصمت الهادئ، والمشوب بالأسئلة الملازمة لسعد وهو يراقب ما حوله، ومنها عين الكاميرا. فقد بدا أكثر انضباطــاً في مواجهتها، ولم يبتعد عــن المتعلقات النفســية، التي شــكلت حقيقة شــخصيته. إنها لقطة شــاعت خلال وســائل الإعلام، لكنها بقيت محتفظة بســرها وسردها لطبيعة الشخصية بتجدد الزمان والمكان.

 ??  ?? من أعما ل الفنان
من أعما ل الفنان
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom