Al-Quds Al-Arabi

عشر سنوات على مأساة الشعب السوري- المسؤولية والحل

- * محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي

متابعة لمقالي الأسبوع الماضي حول الذكرى العاشــرة للمأســاة السورية والذي خصصته للمعاناة الإنســاني­ة بدون التطرق للسياســة، رأيت أن أتابع الموضوع، خاصة بســبب التعليقــا­ت الكثيرة التــي تلقيتها، فــي محاولة لاســتجلاء أسباب هذه المأساة ومســببيها، وهل هناك من ضوء في نهاية النفق؟

لكن هــل هناك إمكانيــة لتحليل الأوضاع في ســوريا، وعرض أسباب هذه المأساة ومن يتحمل مسؤوليتها، وكيف يمكن الخروج منها بشــكل موضوعي؟ هل من أسلوب يضع الحقائق بقدر من الموضوعيــ­ة، ويعرض طرفي المعادلة بما لهــا وما عليها، فيظهــر عيوب النظــام وجرائمه الأوحش في التاريــخ المعاصر، ويعرض ضعــف المعارضة وتفككها وارتهانها للخارج، ويقر باختطاف الثورة من سلميتها من دول البئر النفطي بالتنســيق مع أعــداء الأمة التاريخيين، وتحويلها إلى جماعات تكفيرية وشــلل إرهابية؟ هل يمكن تحليل الأســباب التي أدت إلى غيــاب المعارضة الوطنية، واســتبدال­ها بجماعــات ظلاميــة تكفيريــة همجية، تجز الرؤوس وتحرق الكنائس، وتدمر التراث وتجتث الأقليات باسم الإسلام.

عشر سنوات مرّت على الثورة السورية السلمية عندما كان يمثلهــا رموز مثل، حمزة الخطيب وإبراهيم قاشــوش وعبد الباســط الســاروت وعبد القادر صالح وغياث مطر ومي ســكاف وعلي فرزلي ورزان زيتونة وياســن الحاج صالــح وفدوى ســليمان وغيرهم. طويت صفحة ســلمية الثــورة، وتحولت إلــى المواجهات العســكرية والغارات الجوية والقذائف الصاروخية والبراميل المتفجرة. شهدت ســوريا بعدها دمــارا وحروبــا ونزوحا وتهجيــرا وقتلا وتعذيبا، يعجز عنها الوصف. شُتت نصف الشعب السوري ودُمرت مدنه وقراه ومعالمه التاريخية، واســتبيحت أرضه وامتلأت الســجون بعشــرات الألــوف، ومــازال الآلاف مســجلين مفقوديــن، وتعطلت الحيــاة الطبيعية وأغلقت المدارس، وانزلق أكثر من 60 % من الشــعب السوري تحت خط الفقر وخطر الجوع.

أول من يتحمل المســؤولي­ة هو النظام الذي حول البلاد إلى عقار شــخصي، يورثهــا الأب للولــد، ويملأها تماثيل بكل الأحجام للزعيم والقائد الأبــدي والفارس والطبيب. نظام حوّل البــاد إلى جمهوملكية علــى طريقة عائلة كيم في كوريا الشــمالية، فاتحا بذلك شــهية العديد من أنظمة الطغيان الأخرى، باتباع المســار نفســه. أجيــال تعاقبت على ســوريا لم تعرف إلا الأب والابن في جمهورية الرعب، وأجهــزة المخابــرا­ت المتعــددة التي تحصي علــى كل فرد أنفاســه. لقد علّمت مجزرة حماة عام 1982 الناس أن الحل الأمني هو الأســرع والأســهل، والأقل كلفة، والأكثر تأديبا لمن تسول له نفســه أن يتحدى النظام ولو بكلمة أو أغنية أو شعار، أو منشــور أو بيان أو تنظيم، أو تجمع أو حديث أو نقد أو تذمر. ومع مجيء بشــار الابــن بطريقة لا علاقة لها بالدســتور، أو الشــرعية أو الديمقراطي­ة، كانت هناك فترة ارتياح وتمنيات، ما دعــا مجموعة من الغيورين على وطنهم أن يصيغوا بيان الـ99 فيما ســمي «ربيع دمشــق» الذي طالــب أولا بإلغاء حالة الطــوارئ، لكنه لم يدم أكثر من ستة أشهر من خطاب الرئاســة الأول بتاريخ 17 يوليو 2000 إلى 17 فبراير 2001، وضع بعدها معظم موقعي البيان في السجن، وأقفلت المنتديات السياسية والأدبية، وأغلقت منابر التعبير أو فرص التجمع أو المعارضة تحت أي ذريعة أو مبرر. لقد حدثت الانتكاســ­ة وعادت ســوريا إلى سابق عهدها، كما وصفها الشاعر نزار قباني «دولة قمعستان.»

لم يتردد النظــام عندما وصلــت أخبار درعــا، عن أن يستخدام القوة المفرطة، ويحاصر المدينة، ويعتقل الأطفال ويقطع الطرق والممرات على درعا ويقتحم المساجد. تعامل مع من صرخوا مطالبين بالكرامة والحرية في الســاحات، أنهم خونــة يجب اســتئصاله­م بالحديد والنــار، وأطلق يد الشــبيحة والمخابرات والأجهزة الأمنية والميليشــ­يات الطائفيــة. اســتخدم النظــام كل أنــواع العنــف والقتل والتعذيب والتشــريد والحصار والاغتيال والخطف، ليس لمن يشــارك في المظاهرات، بــل لكل أفراد عائلة المشــارك وأقاربه. واســتطاع بســرعة أن يجر الثورة الجماهيرية الســلمية إلى مربع العسكرة الذي يريده ويتمناه ويخطط له، وينصب الفخ وراء الآخــر لإيقاع الثورة فيه، وقد نجح فــي ذلك، خاصة بعد أن أطلق ســراح 1400 معتقل متطرف كانوا في طريقهم إلى العراق. لقــد عمل النظام بذكاء على تغييــر وجه الثــورة الجميل فــي بداياتهــا الواعدة، إلى صورة أخــرى مغايرة، يمثلها رجال مســلحون متطرفون يمارســون القتل والتدمير وتفجير السيارات المفخخة في الميادين العامة. أثناء هذا التحول من ثورة سلمية إلى ثورة مســلحة دخل على خط الثورة فرقاء خارجيون، ليســوا معنيين بسوريا ولا بشعبها ولا بحريتها ولا بمستقبلها، ولا بدورها التاريخي ولا بقدراتها، وعملوا على تخريب سوريا الوطن والدولــة والبنى التحتية، والإمكانات العســكرية والاقتصادي­ة والعمرانية، كل ذلك لخدمة مخططات التفتيت والبلقنة، التي تسعى إليها إسرائيل منذ يومها الأول.

قامت دول النفط وبتنســيق مع أمريكا والأردن وتركيا إلى صــب مليارات الدولارات لتحويل الاحتجاج الســلمي إلى حركة مسلحة، وهو ما ســعى إليه النظام ليبرر إطلاق كل أدوات الموت. تقاســمت الدول المجاورة وغير المجاورة الأدوار، وأنهوا المعارضة السلمية، وزجوا في الساحة بكل أنواع المتطرفين الذين توالــدوا مزيدا من الفصائل، ومزيدا مــن التطرف والإرهــاب، وتحولت البلاد إلــى مغناطيس يجذب كل لص ومغامــر وتكفيري وقاطع طريق، مأخوذين بسحر الفوضى والجنس والســلطة وجز الرقاب، فانتهت البلاد إلى دكاكين تتنازع فيما بينها على من يقطع مزيدا من الرؤوس، ويشــرد ويهتك الأعراض، ويدمر مواقع التراث التي تحمل بصمات ستة آلاف سنة من الحضارة المتواصلة. لم يعد المشــهد مقتصرا على جبهــة النصرة و»داعش»، بل انتشــرت التنظيمات المســلحة المدعومة مــن الخارج، في كل أنحاء ســوريا. الولايات المتحدة من جهتها عملت على تســليح وتدريب الجماعات الكردية لتزج بهم في المعركة، وبعد انتهاء دورهم تخلت عنهــم ليواجهوا مصيرهم أمام الجيش التركي، الذي عبر الحدود وســيطر على الشــريط الحدودي ويدخل الآن في معارك طاحنة معهم.

تتحمل مسؤولية هذا الخراب أيضا، المعارضة السورية الهشــة التي لم تتفق على شــيء، فراحت منها مجموعات تدعو لعســكرة الثورة، وأخرى ارتمت في أحضان الأنظمة العربيــة والأجنبيــ­ة، وجماعات غيرها تطالــب بالتدخل الأجنبي علــى الطريقــة الليبية، وكأن حســابات الغرب تتطابــق مع وهــم هذه المجموعــا­ت. انضمــت للمعارضة جماعات عميلة تتلقى أوامرهــا من دول الخليج والولايات المتحدة وفرنســا وبريطانيا وحتى إســرائيل. تشكيلات ومجموعات سياســية، وتكتلات ذات مشارب ومرجعيات وأفكار وحلــول متباينة، وكل مجموعة تــرى أنها صاحبة المشــروع الصحيــح، وأنها هــي التي تســتحق أن تمثل الشعب السوري وتتولى قيادته. تبعثرت هذه المجموعات وتشــتتت وانتهى بها الأمر، إما ملحقة بالمنظمات الإرهابية المتطرفة، أو تلعب دورا هامشــيا لا يعيــره أحد أي انتباه. لقد فشلت المعارضة الســورية في صياغة برنامج سياسي وطني جامع واحد يلتف حوله الشــعب الســوري صاحب المصلحة الحقيقية في إنقاذ ســوريا من مأســاتها. صحيح

أن النظأم أعاد الســيطرة على معظم أنحاء ســوريا، لكن ســوريا الوطن وسوريا الشــعب وســوريا الجغرافيا ما زالت مفككة. وجيوش دول كبرى وصغرى مازالت ترابض علــى أرضها. دخــول النظــام الإيراني وحرســه الثوري والميليشــ­يات الشــيعية مثل، كتائب أبــو الفضل العباس وعصائب أهل الحق العراقية ثم حــزب الله اللبناني، كلها لم تســتطع حماية النظام إلى أن دخلت روسيا في سبتمبر 2015 بقوتهــا وجبروتهــا، لتحمي النظام ولــو تم تدمير البلاد وقتل مئات الألوف فيها. سيادة سوريا لم تعد في يد السوريين، بل حصريا في أيدي الأنظمة الروسية والتركية والإيرانية، بينما تعربد الطائرات الإســرائي­لة فوق المجال الجوي الســوري بدون رادع أو حتى إدانة ولو خجولة من الشريك الروســي. لقد فشلت كل محاولات احتواء الصراع ســلميا، انطلاقا من إعلان جنيف الصادر بتاريخ 30 يونيو 2012 والقــرار التاريخي ‪(2015( 2254‬ المســتند إلى إعلان جنيف، ورغم أن خيرة الوســطاء الدوليين حاولو وفشلوا بداية من كوفي عنان فالأخضر الإبراهيمي، ثم ستيفان دي مستورا، وصولا إلى غير بيدرسون، إلا أن الأزمة مستمرة. تبخرت مجموعة ما كان يســمى «أصدقاء ســوريا» وبدأت بعض الأنظمــة العربية بقيادة الإمــارات تعمل على إعادة تأهيل النظــام وإعادته إلى الجامعــة العربية. لكن الوقت مبكر للتأكد من توسيع هذا الاتجاه، الحقيقة التي نعتقد أن الجميع سيعود إلى الإقرار بها وهي ألا حل للأزمة السورية إلا بالعودة لبيان جنيــف والقرار الدولي 2254 انطلاقا من تشكيل لجنة دســتورية تمثل كل أطياف الشعب السوري، تصيغ دســتور ســوريا المســتقبل، القائم على التعددية والحرية والديمقراط­ية والانتخابا­ت الحرة وتبادل السلطة وســيادة القانون واحترام حقوق الإنسان الأساسية، وإلا ســنبقى نعد الضحايا والمجازر واســتخدام­ات الأســلحة الكيميائية ويبقى الناس مقسومين بين من يصنف الرئيس الســوري بأنه بطل مغوار، وأن معارضيه إرهابيون، ومن يرى أن الرئيس السوري سفاح لم ير العصر الحديث مثيلا لــه في الإجرام، ولا حل إلا بإســقاطه. لقد ثبت بعد عشــر سنوات أن الســيناري­وهين لا يمثلان خريطة طريق سليمة للحل. لعل الإدارة الأمريكيــ­ة الجديدة تحمل أفكارا جديدة ومبادرات قابلة للتطبيق بالتعاون مع الدول الثلاث.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom