Al-Quds Al-Arabi

عودة الامبراطور­ية إلى المسرح العالمي مجرد تطلع سياسي

- *كاتب تونسي

النخبة التــي تتحكم في صنــع القرار داخل واشنطن، تسعى على الدوام لجعل الشــعب الأمريكي يؤمن بفكــرة التفوق العالمي. وجــو بايدن في خطاب التنصيب عبّــر عــن ضــرورة اســتعادة الولايات المتحــدة لمكانتهــا المعهــودة، وريادتهــا العالمية، ولكن سياســته لا يــزال يكتنفها الغمــوض، وإن كانت فكــرة التفوق عبر القوة العســكرية تبدو غير مطروحة، والإدارة الحالية تُسبق مقولة الدبلوماسي­ة سبيلا إلى حل المشاكل العالقة على أكثر من صعيد، التي عمقتها الإدارة الجمهورية السابقة برئاسة دونالد ترامــب. ويبدو أنها تدرك جيدا مقدار تغيــر التوازنات، فعالم اليوم فيه من التعقيد ما يجعل من الصعوبة أن يتأتى لأي دولة منفردة فرض سيطرتها عليه.

وإذا ما استثنينا ما تملكه الولايات المتحدة من تفوق عسكري وآلة حربية عالية التقنية، فإن مــا تعتمد عليه من أصول آخذ في التآكل، أو مآله إلى التــآكل والاضمحلال، فاقتصادها اهتز إثر الجائحة، ورغم حجمه الكبير، فهو يشــكل نصيبا آخذا في التقلص، مقارنة باقتصاديات دول أخرى تتعاظم بنحو مطرد. كما أنها باتت مكشوفة على المدى القصير والبعيد أيضا.. وهي محل اختراق سيبراني. وتم تجاهل تهديداتها المتكررة من قبل دولتين تصران على امتلاك القدرات النووية، رغم أنف أمريكا، وهما بالأساس كوريا الشمالية وإيران.

ومثلما أن الحــرب العالمية الثانية، لم تبــدأ بإعلان حرب، ولا هي انتهت باتفاقيات ســام، فقد أعقبتهــا فترة لم يكن من الواضح تحديد ما إذا كانت فترة حرب، أم فترة ســام، ما أدى إلى ابتداع مصطلح الحرب الباردة.

وهذا المفهوم المشــوش بالمعنى القديم، يبــدو أنه يعبر عن الوضع الراهن في الشــرق الأوســط، فالعــراق تعرض قبل غزوه إلى هجمات متتاليــة، وقصف بين الحين والآخر من قبل القوات الأجنبية، وهو نفســه ما حصل في العشــرية الأخيرة على أكثر من جغرافيــا عربية. والوصف ينطبق على ما يحدث داخل الأراضي الفلســطين­ية، أو بين إسرائيل من جهة ولبنان وســوريا من جهة أخرى. ولئن كان ذلك هو الميراث المشــؤوم للحروب العالمية في القرن العشرين، فإنه أيضا بتعبير المؤرخ البريطانــ­ي إيريــك هوبزباوم، ميــراث ما بات ينمــو باطراد من آلــة الدعاية العريضــة، كما أنه ميراث فتــرة مواجهة بين أيديولوجيا­ت مفعمة بالحماسة اتسمت بعدم التكافؤ، وجلبت للحروب عنصــرا صليبيا، كالذي عُرف فــي النزاعات الدينية في العصور الغابرة. وعلى نحو متزايــد، النزاعات الحاصلة اليــوم توجه إلى نهايــات غير قابلة للنقاش، مثل استســام غير مشــروط يريدونه للفلســطين­يين، ويرغبــون من خلاله في طمس معالــم أرض وهوية وتاريخ. وقــد بينت التجارب أن الاتفاقيــ­ات التــي تم التوصل إليها في معاهدات الســام، يمكن نقضها بســهولة، ما بالك بدول تتجاهل القانون الدولي، وكيانات اســتعماري­ة تحتج على تقرير محكمة الجنايات ضد الجرائم التي ارتُكبت في حق أصحاب الأرض، وتعتبره مشينا ولا تجوز المجاهرة به أو إصداره، متناســن بأن تقديم مخالفي القانــون ومرتكبي جرائم الحرب إلــى العدالة هو أمر له لازمة أخلاقية. ولا شــك بأنهــم يراهنون على التمييــز في النظرية كما في التطبيق. الغرب هو الذي شــجع على انتشار «الأفغان العرب» أثناء الغزو الســوفييت­ي لأفغانستان، والذين وكانوا تحت قيادة أســامة بن لادن. والغرب هــو من عمل على تجنيد وتكوين طالبان في المناطق الشــمالية الغربية من باكســتان، ليســتعمله­م في حــرب عصابات ضــد الاتحاد الســوفييت­ي، ولكنه كان اســتغلالا واضحا تفاقمت عواقبه، إثر انســحاب السوفييت، خاصة بعد أن أداروا ظهورهم لما صنعوه، وإفلاس سياســتهم الخارجية أوصلتهم إلــى محاولــة التفاوض مع طالبان بعد سنوات من الحرب المدمرة التي بادرت إليها إدارة بوش الابن، إثر هجمات 11 ســبتمبر. وبغضهم الطائش وغير القابل للاختزال تجاه صدام حســن، أدى إلى إدخال القاعدة إلى العــراق، وأزهقت أرواح ما يقارب نصف مليون شــخص. وصداقتهم الزائفــة مع معمر القذافي ســرعان ما تحولت إلى حملة عســكرية قادها حلــف الناتو للإطاحة بــه. وما يحدث الآن مــع إيران هــو من مخلفــات أحــداث 1953 التي أطاحت بالزعيم محمد مصدق المنتخب ديمقراطيا، بسبب قراره تأميم شــركات النفط، وأدت إلى أحداث 1979، الثورة التي أسقطت نظام الشــاه المســتبد، الذي وصل بانقلاب دبرته المخابرات البريطانية والأمريكية. والأضرار التي ســببتها هذه السياسة في المنطقة تجعلهم الآن يناقشــون في اســتراتيج­ياتهم للأمن القومي، كيفيــة التعامل مع المجموعات المســلحة غير التابعة للدولــة، التي تمتلك القدرة على الدفاع عــن كياناتها ضد قوة الدولــة، محلية كانت أو أجنبية، دفاعــا يبقيها قائمة إلى أجل غير معلوم، بشكل تراهن فيه على سياسة الأمر الواقع، يحدث ذلك في العراق كما في لبنــان وهو قابل للتجدد مرة أخرى في ليبيا أو سوريا.

جــاء في مذكــرة ماك جورج بانــدي لهيئــة الأركان، وهو مستشــار جون كينيدي للأمن القومي، في أوائل ســبعينيات القرن الماضي قوله «أنا أعلم أيضا أن هيئة الأركان تتســاءل ما إذا كان هذا الجزء الفاسد من العالم هو الذي ينبغي أن نتدخل فيه، إلا أنني أخشــى أن أخبركم أننا تدخلنا في هذا المكان منذ زمن بعيد. وعلى الرغم من أن الأمر كان خطأ منذ البداية، إلا أن علينا أن نتذكر النفط». تلك هي السياســة الفعلية، أما التحول الذي يظن البعض أنهم يرونــه، فليس إلا وهما. ولأجل النفط مدّ المخططون الأمريكيون مبدأ مونرو إلى الشــرق الأوســط، وكانــت المبررات جاهــزة. وقضايا كثيرة ســوف تُطمس مرة أخرى في سبيل استنزاف ثروات الدول العربية لتدعيم القوة الاقتصادية والمالية الأمريكية، ضمــن النظام العالمي الجديد، الذي تدرك فيه واشنطن حجم قوة منافسيها الاستراتيج­يين، وهم تحديدا روسيا والصين.

وغنــي عن البيان أن طمــوح الهيمنة والرغبــة في التفوق لهذا المعســكر لن ينتظــر الإصلاحات الأمريكيــ­ة التي ينادي بهــا الديمقراطي­ــون في مجــال الإدارة والنظــام الاقتصادي عامــة، والنظامين الضريبــي والمالي على وجــه الخصوص، وحتى المجال التقني العسكري، فهي ســتكون محاولة يائسة للحيلولــة دون التدهور المحتوم. وليســت في أفضل الحالات سوى محاولة لإرجاء انكشــاف هذا التدهور الواقع لا محالة. والتقلبات الدورية في تاريخ الجماعات ذات الكيان السياسي كثيــرة، وبنحو جوهــري، فإن عــدد هذه الــدورات وطول المدة التي تــدوم فيها مرحلــة الارتقاء موقوفــان على كفاءة القادة السياســيي­ن وحكمتهم، وفي إطار ما هــو متاح لهم من موارد، ومراحل الارتقاء والــذروة والتدهور، نماذج في الفكر السياسي طورها في التاريخ القديم المؤرخ اليوناني الروماني بوليبيــوس، ثم قام ابن خلدون في القرن 14 ومن ثم ميكافيلي في القــرن 15 بتجديدها. وتحدث البروفيســ­ور بول كينيدي في عقد التســعيني­ات عن نشــوء وســقوط الامبراطور­يات. وجميعهم حــذروا مــن النزعــة الامبراطور­ية والاســتعل­اء الإمبريالي، والاستســا­م المرضي إلى الاستهلاك حد الإهلاك، سواء للموارد الطبيعية أو للبيئة والمناخ، كما يحصل الآن. وما لم تســتق مثل هذه الدول ذات الطموح الامبراطور­ي العبرة، وراهنت على التفاعل الإنســاني داخليا وخارجيا، فإن البيئة الحاضنة التي تترعرع فيها عوامل الانحدار، ســتودي بها إلى الاضمحلال والترهل. والذين لا يقــرأون التاريخ كفيلون بأن يكرروا أخطاءه.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom