Al-Quds Al-Arabi

التحية لشباب أم الفحم والعزاء لجلجولية

- *كاتب فلسطيني

نظمت في الخامس من آذار/ مارس الجــاري، مجموعة من أهالي مدينة أم الفحم، أطلقت على نفســها اســم «الحراك الفحماوي الموحد»، مظاهرة حاشــدة ضد تفشــي مظاهر الجريمة في المدينة، وفي سائر المدن والقرى العربية، وضد تواطؤ الشرطة الإســرائي­لية وتقاعسها في التصدي لهذه الآفة المستفحلة، وتناميها في مواقعنا من يوم إلى يوم.

اســتقطب الحدث اهتماماً جماهيرياً كبيراً، فاســتعدّت شرطة إسرائيل لمواجهته بأسالييها المعهودة، وببذل كثير من الطاقات من أجل محاصرته والتشــويش عليه، بما في ذلك عن طريق إغلاق العديد من الطرقات، وعرقلة وصول المواطنين إلى موقع التظاهرة.

من الســابق لأوانه أن نحكم على «عظمة» هذا النشاط، كما حاول ويحاول بعض المتابعــن والمعقبين أن يصفوه، وقد فعلــوا ذلك وهم مدفوعون برغبات سياســية مبررة، وبتفاؤل مرتجى قد يعوّضهم عن مشاعر الإحباط السائدة لديهم من جراء حالة القصور، التــي تعاني منها القيادات السياسية والاجتماعي­ة، لاسيما في فشلها بمواجهة ظواهر العنف والتســيّب، الذي نعاني منه منذ سنوات متعاقبة؛

ومع ذلك ستبقى هذه التجربة جديرة بالتقدير وبالاهتمام وبالمتابعة، وسيســجل لصالح المبادرين إليها نجاحهم في تخطي الكثير من المعيقات المحلية، والمؤثرات السياســية القطرية وانطلاقهم كجسم متماســك ومتوازن وقادر على تحشــيد قطاعات واســعة من الفحماويين، وإلى جانبهم طاقات جماهيرية شعبية من سائر المدن والقرى العربية.

شــاهدنا في الآونــة الأخيرة، ولادة بعــض الحراكات الشــبابية التي أطلق نشــطاؤها في بعض المــدن أعمالا احتجاجية محلية كانت لافتة أحياناً، وملتبسة خلافية في أحيان أخرى؛ رغم ما حظيت به هذه الظاهرة من اهتمامات ونقاشات وتأييد وانتقادات، فقد اتسمت بعض نشاطاتها بالمزاجية المندفعة، والفوضوية الحماسية، حيث لم ينجح محرّكوها ببلورة مفاهيم نضالية واضحة وجامعة، ولا أن يحوّلوها إلى حالة كاملة النضوج والشروط، مؤهلة للعب دور سياسي اجتماعي قيادي، إلى جانب سائر المؤسسات القيادية الموجودة على الســاحة، أو حتــى كبديلة لها أو لبعضها.

جاءت مظاهرة أم الفحم الأخيرة بعد ســقوط عشرات الضحايــا في عمليــات القتل منــذ مطلع العــام الجاري، ودفعت المدينــة منها حصة كييرة، مؤلمــةً وموجعةً. وكان التجاوب الشــعبي مع نداء «الحراك الفحمــاوي» تعبيراً عن الألم والســخط المتراكمين بين المواطنــن، من ناحية، ورســالة للحكومــة الإســرائي­لية، من جهــة، ولقيادات الأحزاب والحركات السياسية والدينية العربية من الجهة الأخرى. ولا يمكننا الحديث عمّا جرى في مظاهرة الخامس من مارس، المذكورة على أراضي أم الفحم من دون التطرق لما جــرى مع النائب منصور عباس، وكيــف تم التعامل مع الحدث بشــكل عام، من قبله وقبل حركته الإسلامية بشكل خاص؛ أو كيف عالجته وسائل الإعلام العبرية والعربية. فمع وصــول عباس إلى المــكان، اســتقبلته مجموعة من المتظاهرين بهتافــات غاضبة، وبصــراخ احتجاجي على ما كان قد نشــر على لســانه بخصوص مواقفه الحريرية، إزاء دور شرطة إســرائيل في مكافحة الجريمة وانتشارها بين المواطنين العرب، مع شــيوع نبأ محاولة الاعتداء على النائب عباس، نشرت كل القيادات العربية بيانات شجب واضحة، واســتنكار­ات حازمة لما جرى، مــن خلال تأكيد رفضهم القاطع للحادثة، خاصــة أن الألوف جاءت إلى أم الفحــم لتعبر عن رفضها لمظاهر العنف المستشــري بيننا،

وضد تقاعس الشرطة وتواطئها مع المجرمين.

لن يختلــف اثنان على أن أهداف المظاهــرة، كما أعلنها «الحراك الفحماوي» ونجاحه فــي تجنيد آلاف المواطنين، كانت يجب أن تبقى هي الأحداث والعناوين الأبرز والأهم في ذلك النهار، ومن غير منافــس أو منازع، خاصة بعد أن تم شجب الحادثة من جميع الجهات والأحزاب والحركات، بشــكل قاطع وصريح؛ ولكــن الطريقة التــي تصرف بها النائب عباس مباشــرة، وهو في أرض «المعركة» وتبنتها من بعده قيــادة حركته، دللت على عكــس ذلك، وبرهنت على تعمدهم اســتغلال ما حصل معه وتضخيمه بشــكل ممنهج، خدمــة لدعايتهم الانتخابية، التــي انبرت بعض المواقع العربيــة الإعلامية المتعاونة معهــم إلى ترويجها، ومعظم وســائل الإعلام العبرية إلى استعراضها كالحدث الأهم، وكأن المظاهرة حدثت في ظلاله. ومن اللافت أن نقرأ اتهام عباس في تصريحه الأول، ومن الموقع مباشــرة، بعد انتهاء الحادثة، وقبل التحقق مــن التفاصيل، على أن من تهجم عليه «هم قلة تنتمي للأحزاب السياسية المنافسة من خارج أم الفحم، ولا علاقة للحراك الفحماوي الشريف، ولا لأهل أم الفحم الشــرفاء بالموضوع..»، رغم أنه كان يجب أن يعرف من قام باعتراضه قبل أن يتهم ببيانه منافســيه من الأحزاب السياســية الأخرى؛ لكنه تصرف للأســف، كسياسي يسعى وراء مكاسب انتخابية، ولا تهمه الحقيقة والواقع وتداعيات المظاهرة المرجوة.

أتمنــى أن تســتمر النشــاطات المناهضــة للعنــف ولسياسات الشرطة الإسرائيلي­ة في أم الفحم، وفي جميع بلداتنا المنكوبة، رغم قناعتي أنها لن تكفي ما دامت أحوالنا ستراوح في بؤسها المزمن، وتواجه بضعفها من يحاولون تخثيرها، أو ترويضها، أو تجنيدها مزارعَ لمصالح أحزابهم وحركاتهم ووجاهاتهــ­م الخرافية. لم نكن بحاجة إلى أكثر من ليل وحلــم كي نصحو مجدداً على حافــة الهاوية؛ فقد نامت أم الفحم، بعد المظاهرة، على وسائد من عزم وإصرار جميلــن؛ لكنها أفاقــت، مثلنا جميعاً، علــى صرخة اختها جلجولية، وهي تســتعد لحفر قبر يليق بجسد يافع اسمه محمد عدس، أعدم بالرصاص وهو في عمر الورد فســقط على عتبــة داره حين كان مــع صديقه يــأكلان، وثالثهما القدر. نحــن بحاجة إلى ثورة تأخذنا إلــى ما وراء الغيم والســراب، فبدونها لا يوجد حــل لقضية العنف ولحالات القتل في واقعنا الحالي؛ لأننــي، كما كنت كتبت مؤخرا؛ لا

أرى من وكيف سيفعل ذلك، ولذا سننام ونصحو في حضن حالة «اجتماعية» مســتديمة، كالتعلم والزواج أو كالترمل والمرض، وسيبقى القتل رفيق شــوارعنا والعنف شرطي مدارسنا ومجالسنا وفراشــنا، إلى أن نتغير نحن وتتغير أحوالنا.

قد ينتقد البعض تشاؤمي، لكنني مقتنع بأننا إن لم نقر بعجز مجتمعنا، وقصور مفاعيله السياســية والاجتماعي­ة والدينيــة والتربوية، وفشــلهم في مواجهة هــذه الآفة، ستســتمر أرواحنا بالتنفــس في بقع الضوء الشــاحبة، وســيُحكم من يســمون، مجازاً وخطأ، بخفافيش الظلام قبضاتهم علــى حناجرنــا، ويمضون في تســيّدهم على حاراتنا الخائفة.

لا نقــاش حول واجب الدولة ومؤسســاته­ا في محاربة الجريمة المســتفحل­ة بيننــا، ولا حول دورها فــي معاقبة الجنــاة وضــرورة ردعهم، ومســؤوليت­ها عــن معالجة مســببات هذه الظاهــرة الخطيرة، ولا جدال فــي أنها لم تفعل ذلك عن قصد، وتنفيذا لسياسات عنصرية تستهدف حصانة مجتمعنا، وأمن مواطنيه واســتقرار­هم السلمي؛ بيــد أن ذلك، رغــم صحته، لا يبــرر فشــلنا الداخلي في مواجهة ظواهر العنف، كما تتداعى في عدة أشــكال، وفي مواقع تخضع لسيطرتنا بشكل مطلق؛ ولا يبرر أيضاً فشلنا في إيقــاف نزيف الدم، وتحجيم عــدد عمليات القتل التي تحصل مثلًا على خلفية ما يسمى بشرف العائلة، أو بسبب عادات الثأر القبلي البغيضة وما شابهها. ستبقى الحكومة الاسرائيلي­ة المســؤولة الأولى والأخيرة، عن كل المجرمين والجرائم عندنــا، خاصة عما تقترفــه عصابات الجريمة المنظمة؛ ولكن ســيبقى، في الوقت نفســه، التساؤل حول دور مؤسساتنا المحلية، مثل المجالس والبلديات، ضرورياً ومبرراً؛ والتساؤل حول مساهمة ودور المؤسسة التربوية موجعاً؛ والتســاؤل حــول تأثير المؤسســة الدينية مقلقاً ومســتوجبا. فاذا فتشنا عن دور هذه المؤسسات سنجده، في أحســن الأحوال، هامشــياً، وفي بعضها ســنجد أنها تساعد، إما بصمتها وإما بفعلها، في ترسيخ ظواهر العنف وفي استفحالها.. فإلى متى؟

لأم الفحــم تحيــة وســام.. ولجلجولية ولــكل بلدة مفجوعة العزاء.

الحراك «الفحماوي» تعبير عن ألم وسخط المواطنين ورسالة للحكومة الإسرائيلي­ة، ولقيادات الأحزاب والحركات السياسية والدينية العربية

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom