Al-Quds Al-Arabi

ثورة الحرية بعد عقد مرير

- رياض معسعس ٭

عقــد مضى علــى الثورة الســورية، فإذا نظرنا إلــى العام 2011 الــذي انطلقــت فيــه حناجــر الســوريين تهتــف: «الشــعب يريد إســقاط النظام» ألفينــا أن أحدا لم يكن يتوقــع أن النظام الجاثي علــى الأنفاس منذ زهاء أربعــة عقود، والذي جعل حياة الشــعب الســوري فصولا لا تنتهي من العذاب، والذل، والهوان، لن يتوانى هــذه المرة عن رميه بكل ما لديه مــن مقذوفات ضد الحياة: براميل متفجرة، ســكود، قنابل عنقودية، راجمات صواريخ، وكل أسماء أســلحة الموت حتى الكيميائية منها: ســارين، خردل، كلور.. وكل أسلحة الاختناق التي أصابت الأطفال قبل الشباب.

آلة القتل

الملايــن الذيــن غصت بهم الشــوارع، وضج بهــم الفضاء وهم يهتفــون: «ســوريا بدها حريــة» لم يتوقعــوا أن نظاما متســلطا، متمرســا في القمع ســيمارس هواية القتل المحببــة لديه من اليوم الأول على باب المســجد العمــري في درعا حيث بــدأت آلة القتل، وكلما عادت الجموع تشــيع شــهداءها بأهزوجة الشــهيد، كلما ازداد النظام غيظا وجنونا.

فماذا ينتظر من « شــبيحة» قاحلة المشــاعر الإنســاني­ة ســوى القتــل والتعذيب! قالــوا: «هؤلاء الثــوار صاروا جاهزيــن لتنتزع عنهم صفــة المواطنة، ويتحولوا إلى أعــداء لا يصلحون أن ينعموا بــأرض كريمة، وســماء رحيمة، وكســرة خبز. خذوهــم فغلوهم وإلى ســجن تدمر، وصيدنايا، وعدرا، والمزة.. أول طريق الجحيم ودوهم .»

خلال ثمانية شــهور لم يفلح البطش بالناس عن ثني عزيمتهم: نســاء ثكلن، وأخريات ترملن، وكثيــرات عذبن واغتصبن، وآلاف قتلن، ومثلهن بقين ثيبا.

الربيع العربي

بعــد أن حولت أقبية المخابــرا­ت، وعنابر الثكنــات إلى واحات تعذيب قبــل الوصول إلى اليوم الأول من الأبد، كان من المعجزات أن يبقــى أحدهم حيا. المقيمون كانوا يقومــون بكل ما يترتب على المحكــوم بالإعــدام تعذيبا، أو شــنقا وحرقــا، من زيــارة ذكريات حيواتهــم المريرة الــذي اغتال فيها نظــام القمــع والطائفية حتى الأمل.

بعد ســنوات عشــر عجاف جــدا انتهى الأمر بكل ســوري على أرض سورية أن لا يسمع سوى نداء معدته، ومعدة أولاده، الناس جميعا صاروا في انتظار ما لا يأتي، يتفاءلون بالخير ولا يجدونه، يحلمون بالرغيف في بلد كان يطعم روما، ولا يوجد فيه جائع.

نصف الشعب السوري بات إما لاجئا أو نازحا، جلهم يسكنون بيوتا من قماش لا تغني من برد، ولا تقي من حر، في عراء لا يرحم من سماء ومن صولات ريح تزفر وتزفزف وتقلع الأوتاد.

في بداية هذه الثورة التي لم تشــابهها ثــورة من ثورات الربيع العربي، لاختلاف النظام السياســي وتجذره في ســوريا، لم يجد من حل إزاء إرادة شــعب في التحرر منه ســوى وصمه بالإرهاب، فأطلــق كل معتقليه الإســاميي­ن وقــام حتى بتســليحهم، لتقوى الحجة ويخيف الغرب المتعاطف من موجة إرهاب جديدة، فنشأت ميليشــيات لا حصر لها عدا، منها ما قاتل قوات النظام، ومنها ما قاتل بعضها بعضا على الغنائم، والنظام يســجل النقاط، ويمعن في السفك. الفصائل تنوعت موالاتها لدول وجهات متعددة، هي أيضا متصارعة فيما بينها، نشــأ «تنظيم الدولة» في وقت قياسي في غفلة من الزمن، وليس مــن أكثر من نظام، واجتاحت جحافله كجحافل المغول والتتار أرض ســوريا والعراق، وكأنها في نزهة ربيعية، فأثخنت الناس بالجراح، وطبقت عليهم شريعتها في مدن يحتار المرء كيف يمكن لفئة قليلة من الســيطرة عليها مقابل أنظمة تمتلك جيوشا وميليشيات تفوقها عددا وعدة.

محافظة إدلب

وكمــا نما ســريعا أطفــئ وهجــه ســريعا أيضا كنجــم داهمه صبح، تحت ضربــات التحالف الدولي بعد أن فــر الناس زرافات ووحدانــا، ومن لــم يقتله النظام قتله تنظيم الدولــة ، أو ذبحه، أو أحرقه أمام عدســات الكاميرا وكأنه يطبق برنامجا معدا سلفا له ليوقظ الغرب على تطرف « إســاموي» لم تســلم منه في أكثر من عاصمة، في باريس ولندن وبروكسل وسواها.

أما الفصائل الأخرى التي بدورها لم تأل جهدا في قمع المدنيين وقتلهــم واعتقالهم، كانت من أوائل من فروا من مناطق تواجدهم بعد أن جاءتهم الأوامر مــن مموليهم ليتجهوا جميعا إلى محافظة إدلب، وحشــروا فيها حشــرا مــع كل النازحين الذين لــم يعد لهم مأوى سوى الخيام.

أمــا المعارضة السياســية التي بدأت بإنشــاء المجلس الوطني، والذي لاقى دعما من ما سمي بالدول «الصديقة لسوريا» سرعان ما انحــل بعد تخلي هذه الدول عنه، وقــام على أنقاضه الإئتلاف الوطني الذي يدور في حلقة مفرغة أدخلته فيها روسيا، والنظام، في اجتماعات، ومؤتمرات، ومفاوضات في آســتانا، وسوتشي، وجنيف، وبرزت منصات سياســية في موســكو، والقاهرة، وكل طرف يجذب الغطاء إليه، ويبقى الشعب دون غطاء.

أما النظام الســعيد، ورغم أنه يعي تمام الوعي بمآسي الشعب الذي يرزح تحت سلطته من جوع، وفقر، وانعدام المواد الأساسية للعيش الكريم بعد عقد مرير من الثورة، وخمســة عقود من الحكم، يحضر نفسه لخوض انتخابات لســبع سنوات أخر عجاف جدا، مع نشر صورة « الرئيس المفدى» على الخراب، كطائر بوم يعشق هذه الأماكن. ٭ كاتب سوري

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom