Al-Quds Al-Arabi

«بِلّوها واشربوا ميتها»

- ابتهال عبد العزيز الخطيب

ربما أحد أخطــر المعوقات التي تواجه الحراك النســوي اليوم هــو عائق الصورة الوهمية، عائــق الخدعة البصرية الظاهــرة على أســطح الكثير مــن المجتمعــا­ت، وبالأخص مجتمعاتنا العربية الإســامية، من حيث تواجد ومشــاركة المرأة في الحياة السياســية، والعملية، والاقتصادي­ة. تتردد لدينــا في الكويت تحديــداً كثيراً جملة «شــنو تبون بعد؟» بمعنــى «ماذا تريــدون إضافة إلــى ذلك؟» في إشــارة إلى تحصل المرأة على حق الترشــح والانتخاب البرلمانيي­ن. ولأن المرأة الكويتية تبوأت مناصب رفيعــة مثل مناصب الوزيرة والســفيرة وعضو البرلمان واليوم منصــب القاضية كذلك، ولأن بــن الكويتيــا­ت اقتصاديات متمكنات وسياســيات محنكات وقياديات في مراكز عملهــن، فإنه ينظر لحيواتهن على أنها مكتملة الحقوق، مستقرة الظروف، فما مدى حقيقية هذه الصورة اللامعة الصقيلة؟

لا يوجــد بعد في العالم مجتمع اكتملــت فيه حقوق المرأة كمــا لا يوجد بعد في العالم مجتمع انتفــت منه العنصريات كاملة. البشــرية جنس غريب، لا يؤثر فيه الزمن إلا لماماً، ولا تترك فيه التجارب سوى أثر طفيف سرعان ما يُنسى. لذلك، نجــد أن التغيير إلى الأمام بطيء جداً في تاريخ البشــرية، والتراجع إلى الخلف ســهل وســريع ولربمــا مريح وممتع كذلك، تماماً مثل التزحلق على سطع أملس مائل. وعليه، نجد أن قضية المرأة، وقضية المرأة تحديداً، تأخذ خطوة للأمام، ثم تتراجع خطوات للخلف، لتبدأ بالنســبة للقائمات والقائمين على هذه القضيــة النبيلة رحلة محاصرة الضرر والتخفيف من آثاره عوضاً عن تكريس الجهود للتقدم للأمام. وهكذا، ما يتم إنجازه في عقد من الزمــان في القضايا الأخرى، يحتاج لقرن منه في قضايا المرأة. والتكلفــة لا تقف عند حد الزمن، فمع هذه الســنوات المهدرة تهدر أرواح وتراق دماء وتحبس حيوات وتحرق نفوس وتورث العذابات من جيل من النساء لذلك الذي يليه، وما زلنا على ذات الطريق سائرات.

الحقوق الإنسانية، ومنها حق المشاركة في الحياة المدنية، حــق اختيار وتقريــر الحياة، حق الاســتمتا­ع بهذه الحياة والشــعور بالأمان خلال أيامهــا، هي كلها حقــوق أصيلة، مضمونة لنا، كما يفترض، مع ولادتنا للصنف البشــري، إلا أنه من الضروري كذلك اســتيعاب فكرة أنها حقوق «أولية»، بمعنى أنهــا أدوات مبكــرة نتحصل عليها كبشــر لنبدأ بها الحياة وليست أهدافاً عظمى يفترض أن تتحقق في نهايتها، هــي حقوق قواعدية تســاعد على الصعــود ببنيان الحياة ليرتفع محتوياً الســعادة والرضا. لا يفترض بنا أن نناضل طــوال حيواتنا للحصول على الحقوق السياســية ولتأمين شــيء من الأمان، تلك كلها يفترض أن تكون متوافرة مبدئياً حتى تصبح حيواتنا أثرى، وحتى يكون لزمن وجودنا على الأرض قيمة ذاتية، متعة داخلية، ومعنى خاص لنا وبنا. إن معنى الحياة بأكملها، بالنســبة لصاحبتها، يكمن في الزمن المتاح لهــا على الأرض، فــأي حياة تلك هي التــي نبعثرها بحثاً عن مجموعة اســتحقاقا­ت يفترض أن تكون مضمونة لنا بحكم ولادتنا للجنس البشــري، وأي حياة تلك هي التي يجب أن نقف «خفراً» عليها وعلى أنفسنا إبان عيشها طوال الوقت؟

يجب علينا اليوم أن نراجع أوضاعنا النسائية الإنسانية فــي العالم العربــي الإســامي أجمع. الحصــول على حق الترشيح والانتخاب هو التحصل على أداة رئيسية وبدائية في الواقع، أداة مكفولة لكل البشــر لكي يشاركوا من خلالها في صنع مؤسساتهم المدنية والدولية ولكي يشاركوا في بناء حيواتهم العامة. أن يكون للمرأة حق الترشح والانتخاب في بعض )حتى ليس كل( الدول العربية الإســامية، ولكنها في ذات الوقت لا تســتطيع توريث أبنائها جنسيتها، لا يحق لها أن تزوج أو تطلق نفسها، لا إرث ولا حقوق حضانة متساوية عادلة لها، لا مميزات ســكن ودعومات أسرية تتحصل عليها دون وجود ذكر في أســرتها، لا قوانين تحميها من المتحرش، من اغتصــاب الزوج، ومن كافة أنواع العنف الأســري، ففي هذه الحالة، هي لا شيء لها مطلقاً، حقها السياسي هذا «تبله وتشــرب ميته» طالما لا يحقق لها مواطنة كاملة عادلة وأمناً حياتياً مستقراً.

ما فائدة أن أكــون وزيرة ولا أســتطيع أن أزوج أو أطلق نفسي، أن أكون سفيرة ولا وصاية مباشرة لي على أولادي، أن أكــون خبيــرة اقتصادية وعلى رأســي معلقــة قوانين «القرف» التي تحمي قتلة ما يســمى بجرائم الشرف وتخفف العقوبات عنهم؟ ما فائــدة أن أكون قاضية وأبنائي وزوجي غرباء في بلدي، حيث يتنصــل مني وطني ويحرمني أن أمد حبل هويتي لأســرتي حتى يلتئم شملنا النفسي والروحي؟ ما فائــدة أن أكون مهندســة أو دكتورة أو مديــرة ومازالت العادات والتقاليد والنظــرة الذكورية تحكمني وتتحكم في مظهري وتصنفني وتحجرني في قوالب لا عقل ولا منطق ولا علم يقبل بها؟

الحقوق السياســية والوظائف ليســت مظاهر نفاخر بها بين الناس، تلك هي أدوات يفترض أن تُعَبِّد لنا الطريق، تمهد لنا الحصول على حيوات مســتقرة سعيدة وآمنة، تسوغ لنا المشــاركة العادلة في صنع القرار. بــا كل ذلك، هذه حقوق «زي قِلّتهــا»، مجرد صور مخملية باهتة على وجه مجتمعات قادمــة من عمق الزمــن، مجتمعات لا تريــد أن تصل لنهاية النفق، لا تريــد أن تخطو حيث الإضــاءة الطبيعية وحيث تتحول الصور المصطنعة إلى حقيقة بهية الألوان.

وهنا لا بد أن نســتذكر أنــه حتى في أفضــل المجتمعات التي تبدو فيها ظروف المرأة مســتقرة نوعاً ما، هناك نســاء في ذات المجتمع يقفن عند أســفل الهرم الطبقي الاجتماعي، يعانين، ليس فقــط من قوانــن بلدانهن ومــن حكوماتهن ولكن كذلك من أســرهن وظروفهــن الاجتماعية والذكور في عائلاتهن، نســاء تائهات مخفيات خلف صور أفضل بعض الشيء لنســاء تقف في منطقة أفضل من الهرم الطبقي. كلنا مسؤولات وكلنا منتقصات حقوق ومنتهكات مواطنة وكرامة ما بقيت بيننا امرأة واحدة مظلومة، معنفة، مضطهدة بسبب جنسها، انتمائها أو طبقتها الاجتماعية. علينا أن نبقى ننظر أعلى وأسفل هذا الهرم الذي فرض علينا فرضاً، نطمئن على بعضنا البعض، نمد الأيادي لبعضنــا البعض، وألا يهدأ لنا بال حتى تكون كل وإلى آخر واحدة فينا بأمن وسلام وشيء من السعادة..

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom