Al-Quds Al-Arabi

الرواية الجزائرية وقد أتمت سن الخمسين

- ٭ كاتب جزائري

■ أخيــراً أتمــت الروايــة الجزائريــ­ة الناطقة بالعربية سن الخمســن. نصف قرن مرّ منذ صدور «ريح الجنــوب» لعبد الحميد بــن هدوقة )1925- 1996(. خمســون عامــاً مــن التقلبات، مــع قليل جداً من الثبات، خمســون عاماً مــن الطواف حول السياســة ومعاداتها، من الرقابــة والإفلات منها، من الطاعة والعصيان، لم يكــن للرواية الجزائرية الناطقــة بالعربية وجه واحد، بــل وجوه وأقنعة، كانت مثل ثوار عاشــوا في عتمة أكثر مما عاشــوا فــي النور، تاريخها تــوأم هذا التاريــخ المتأزم في الجزائر، الذي لم يهدأ منذ الاستقلال )1962( تاريخ حافل بالانزلاقـ­ـات، بالصمود أحيانــاً وبالتراجع مــرات، إن مقاربة نصــف قرن من تاريــخ الرواية الجزائرية بالعربية سوف يحيلنا إلى أرضٍ ملغمة بالخســارا­ت، لكنها تفضي إلى قليــل من الأمام في نهايتها.

لا تزال «ريــح الجنوب» روايــة الروايات، أصل الحكاية ومبتدأها، رغم ما شابها من منحى كلاسيكي فــي كتابتها، فهي تقــدم نموذجاً ناصعــاً، انطلاقة حســنة، كانت ابنة زمانها، رواية مسالمة في تبني ما ذهبت إليه جبهة التحرير الوطني، في تكرار صوتها، في الخــوض في قضاياها آنذاك، مــن ثورة زراعية ورغبة في المساواة الاجتماعية وهدم الطبقية، رغم أن تلــك الأحلام لــم تتحقق، لكن النــاس آمنوا بها مثلما آمن بها عبد الحميد بن هدوقة، كان واحداً من الحالمين بأن الاستقلال ســوف يتلوه إعمار، رواية اتخذت من القرية مكاناً لهــا، القرية بوصفها خزاناً للوطنيين، الذين تغاضى عنهم التاريخ، فقد جعلت «ريح الجنوب» من الأمكنة عمــاداً لها، في المقهى أو الســوق أو المقبرة، كتبت في فلك واقعية اشتراكية، مخلصة للحــكام الجــدد الذين بســطوا هيمنتهم علــى البــاد، عن الفقــر وخدمــة الأرض ومعاناة الفلاحــن وصبرهم، ولكنها أيضــاً رواية في مديح النسوة والنســوية، من خلال شخصيتها )نفسية( وفي الدفاع عنها، رغم أنهــا باكورة عبد الحميد بن هدوقة ـ الذي اشتغل قبلها في كتابة الشعر والقصة القصيرة ـ فقد أسعفته سعة قراءاته في التحكم في لعبتها السردية، في إقناع قارئه بالنماذج البشرية التي احتشد بها النص، كانت رواية مبشرة بسيرة

روائي قــادم، وذلك ما حصل فعلاً، حافظ بن هدوقة على إيقاع مرتفع في كتاباته اللاحقة، وشــرّع باب الرواية الجزائرية، الذي ســوف تلج منه أجيال من بعده، كانت «ريح الجنــوب» ريحاً أولى تلتها رياح أخرى، تقاذفت الروايــة الجزائرية، التي لم تعرف استقراراً، لكنها في ضجيجها وسكونها أحياناً تتيح لنا أن نتعرف على أوجهها.

أوهام الاشتراكية

ظلــت الاشــتراك­ية، فــي نســختها الجزائرية، التي بادرت إلى توزيع صكوك الوعود الهشــة إلى الناس، تســري في كتابات من وصلوا إلى الرواية في حقبة الســبعيني­ات، مع مديــح مبالغ فيه لثورة التحريــر، دونما أدنــى جرأة في نقدهــا، احتكرت الدولة النشر بفضل شــركة وطنية، وتحول الأدب بالعربية إلى ما يُشــبه كتابات سياسية، في المقابل كانت الرواية الجزائرية الناطقة بالفرنســي­ة تحفر طريقاً لها، أقرب إلى الإنســاني­ة أبعد من اجترار لغة الساســة، بات كل من يكتب قصــة مطولة، تتضمن كلاما عن الاشــتراك­ية، الثورة، القرية بدل المدينة، عن الفلاحين بدل أصحاب رأس المال، يجد بســهولة طريقاً للنشــر، أما من يخرج عن هذا الخط، فسوف يســتبعد، بل قد تلفق له تهمة محاباة الإمبريالي­ة. الرواية الجزائريــ­ة الناطقة بالعربية التي بدأت من نص تأسيســي يليق بها، ســرعان ما تحولت إلى أداة سياســية، لذلك يندر أن نجد نصاً واحداً قاوم الزمن، واستمر إلى غاية اليوم، فغالبية ما صدر في السبعينيات طواه النسيان.

مع بــدء الثمانينيا­ت، طفح وجــه البلد بظواهر غير مســبوقة، اشــتعل الربيع الأمازيغي )1980) بعد منع محاضرة للروائي مولود معمري، وصارت المعارضة السياســية واقعاً، بعدمــا كانت مقموعة، استغل البعض تلك الحالة وسارعوا إلى مسايرتها، فتوارى مديح الحزب الواحد إلى الخلف، لكن سقف الجرأة ظل منخفضاً، والرقيب بقي يقظاً، لم يحصل أن منعت أي رواية بقرار سياسي، ولا بمرسوم، بل المنــع كان محلياً، لم يكن ما كتب فــي الثمانينيا­ت يســتحق عنــاء المنع، لكــن افتعال قصــص المنع وأحاجيها، كانــت تثير البهجة فــي قلوب بعض المثقفين، فتشــعرهم زيفاً بأنهم صاروا مهمين. ففي الثمانينيـ­ـات، كــرس الرئيس الشــاذلي بن جديد تقليداً، هو إســداء أوســمة للكتاب، فانشغل جلهم بالوصول إلى التكريم على حساب الكتابة، ضاعت الروايــة الجزائرية في المحاباة، ونســيت التزامها إزاء القارئ، وكان عام 1986 مهماً، إذ انتقل رشــيد بوجدرة من الكتابة بالفرنســي­ة إلى العربية، ما بث دماً جديداً، حرك غيرة بين الكتاب، تحول إلى صراع أدبي سوف تنتج عنه بعض الأعمال الناضجة فنياً، لكن الحال لم يســتقر طويلاً، قبل أن تدخل الجزائر عشرية حمراء، وسنوات من الموت كان فيها الكتاب والمثقفون على رأس المســتهدف­ين، بــدءاً من اغتيال الروائي الطاهر جاعوط.

تهمة الكتابة الاستعجالي­ة

كان يفترض المنطق أن تشهد عشرية التسعينيات تكاثفاً بين الكتاب، أن يتحملوا بعضهم بعضاً، بحكم أن الجميع كان مســتهدفاً من الظلاميين، لكن حصل العكس، اشــتعلت حروب كلاميــة، وكل من يكتب عن الأحــداث الطازجة وقتها، يوجــه إليه صديقه الكاتب تهمة معلبة: «إنها كتابة استعجالية» كل من كان يكتب عن الجزائريين الذيــن يموتون كل يوم، بضربة ســكين أو طلقة نار أو ســيارة مفخخة، إنما في نظرهم يستعجل الكتابة، هل كان على الروائيين أن يســتمروا في اجترار أمجاد الاشــتراك­ية، كي لا توصــف كتاباتهــم بالاســتعج­الية؟ غالبية الذين أطلقوا مصطلــح «الكتابة الاســتعجا­لية» إنما هم روائيون لم يكن لهم موقف من العمليات الإرهابية، كانوا يجلسون على الدكة، ينتظرون نهاية الحرب، كي يرتموا فــي حضن الُمنتصر، وذلك ما حصل فعلاً، انتظــروا حتى همدت المأســاة واســتعادو­ا الحبل السري الذي يربطهم بالسلطة.

أفرزت عشرية الدم جيلاً جديداً من الروائيين، جيلاً ينحاز إلى العبثية في تناوله للسياسة، في الســخرية من الحياة، وعــدم التعامل معها بجد، جيلا غير عابئ بمنطق الحكم، بل يرى فيه خصماً، هكذا شــرعت الرواية الجزائرية الناطقة بالعربية في تغيير جلدها، شــيئاً فشــيئاً، في العشــريتي­ن الأخيرتين، باتت أقرب للإنســان منهــا إلى مهادنة النظام، صارت أكثر وعياً بالانشــغا­ل على الفن من الانشغال عما يطلبه الرقيب، أو ما يريده منها قارئ اعتاد على كتابات مســالمة، تشــفق عليه، لكن هذا الجيل أيضاً تشــوبه عورات، ينزاح عدد من كتابه إلى تلبس شخصية الضحية، إنه جيل متحالف مع البكاء، لا يرتاح بال بعض منهم ســوى إن نال رضا الساسة، الذين يخاصمونهم في العلن ويحابونهم في الســر، وإذا اســتمر كذلك فســوف نكرر سيرة الرواية الجزائرية في الخمسين سنة الماضية، سوف يعيد هذا الجيل هدم كل ما بنــي، ويصير هذا المقال صالحاً بعد نصف قرن آخر من الآن.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom