Al-Quds Al-Arabi

أدبيـات الربيع العربـي: محاولـةُ تحليـل وفهـم

- أسامـة الصغـير ٭ ٭ كاتب مغربي

حلّت العُشْــرِيَةُ الأولى لما صارت الأدبياتُ السياسية تُسمِّيه «الربيع العربي .»

وما بين حديثٍ عن ذكــرى بمعنى القطيعة، وحديثٍ عن اســتمراري­ة بمعنى الاتصال، فقد تداول الخطابُ العربي هذه العُشرية في الرأي. كأي اعتمالٍ تاريخي، فإن ما أُسَمِّيه «الهَبّة العربية» كَشَفَ أربعة نماذج فكرية )براديغمات( أساسية تختلفُ حسب الطبيعة الداخلية لكل بلد، وحسب طبيعة الفَوَاعِــلِ الخارجية، التــي فعلت فيه وتفاعلــت معه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالشــرق الأوسط وشــمال افريقيا. وكأساس نظري لهذه المقالة، لا بد من التذكيــر أن تجربة الدولة في هذا النِّطاق الجغرافي والثقافــي ما تزال فَتِيّة فــي الأَذْهَان والبُنْيَان، لأن عُمْــرَ ونتائج الدولة، حسب فلســفةُ العَقد الاجتماعي والفكر السياسي، لا تُقاس بعُمْرِ ونتائجِ الفرد. لا يعني هذا بأي حالٍ الارتكانَ إلى ما هو موجود وكائن، لكنه لُزُوما يعني ضرورةَ الوعي بصيرورة التاريخ بعيدا عن التهافت الشعبوي.

براديغمـات الواقـع

البراديغم الأول، هو تعزيز أوليغارشــ­ية العســكر. نموذجٌ تُجسّده بامتياز تجربة الجزائر.

البراديغم الثاني، الإسلامُ السياســي الراديكالي مع سُلطة العسكر. نموذجُه مصر. وقد كان الإســام السياســي في هذا القُطر العربي أكثرَ راديكالية، لأن مصر مَعِين ومنبع الفكر الإخواني السلفي.

البراديغم الثالث، الإسلام السياســي الليبرالي، تُمثِّله تونس. وهو إســام سياســي تَعْتَمِلُ فيه مقوِّماتٌ علمانية نظرا للســبق التَّنْوِيري والمدني، الذي نَهَضَتْ به النُّخَبُ التونســية، أفرادا ومؤسســات طوال العقود الأخيرة بصخبٍ أقل ونتائج أكثر، قياســا إلى الصخب التنويري المشرقي.

أما البراديغم الرابع، فهو الإثنية الطائفية مع أوليغارشــ­ية العسكر. وتُمثِّلُه كلٌّ من ســوريا واليمن. والبراديغم الخامــس، هو الهَبَّةُ بلا أثر. وتُمثِّله كلٌّ من البحرين، لبنان بدرجة أقل، والسعودية.

البراديغم السادس، هو الإسلام السياسي في المغرب. إذا كان المخزن هو الُمكوِّن الثابت الأكثر اســتمرارا واستِقْوَاءً في العَشْرَةِ قرون السابقة

من التاريخ المغربــي، فإنه راكَمَ أكثرَ من أي مكوِّن آخر، خِبرات وأوالِيَاتِ اشتغالٍ، اســتطاع أن يتفادى بها الصدمةَ عبر اللجوء إلى دِرْعِ الإسلام السياسي، باعتباره صَمَّام أمانٍ في سيكولوجية المرحلة. بالتالي نجحت مؤسسة المخزن في نقل المغرب إلى بَرِّ الأمان والاستقرار النِّسْبي المحمود، لكن بتدقيق مِجْهر التحليل، نســتطيع القول إن المغرب لم يتجاوز البنية العميقة، لأزمة الاختناق والاحتقان الســيكولو­جي العام، بينما استطاع أن يَدْفع الأزمةَ إلى الأمام ويؤجّلها.

إن السياســات العامة التي تُدير السلطةُ شؤونَها الحقيقية، لم تفلَح في كســب الرهان التاريخي، ولم تنجح في امتحان الارتقاء بمؤشــرات التنمية وتحســن شــروط الحياة اليومية، لأن الواقع لــم يرتفع، حتى وصلنا إلى الإقرار الجماعي بفشــل النموذج التنمــوي. نتيجةً تفاعليةً لذلك الإخفاق، فإن مؤشرات الاستياء اليومي في خطاب المغاربة، ما تزال تُنْذِرُ بالرواسب العالقة والُمتنامية في النفسية الجماعية.

والملاحَظ أن مؤشر خطاب وسائط الفيسبوك واليُوتيوب في تصاعدٍ مُقلق، ســواء من حيث التطاول على المؤسسات الرسمية والمدنية، التي لا تَقُــوم فكرةُ الدولــة إلا بها، أو مــن حيث التطاول علــى رموز الدولة ومَوْئِلِهــا، يُضاف إلى ذلك مؤشــرٌ دال جدا، يتعلــق بارتفاعٍ صارخ في منسوب الهجرة السرية. هذا الهاجس والخيار الوجودي قد اسْتَفْحَل في العُشْرِية الأخيرة، بل أصبحنا نُشاهد تَوْثِيقاً مستمرا لهذا الهروب، زادَه خطورةً أننا نرى الأُسر والعائلات والأطفال والقاصرين على مَتْنِ قوارب الفرار الجماعي من بَراثِن الأزمة العامة، والبحث عن الخلاص.

سيكولوجية الجماهير

هذا الاحتقانُ الذي يعتمل في سيكولوجية الجماهير، يؤكد أن الخطر التاريخي في مرحلة كُمُونٍ.

في هذا المقام من الجدير الوعي بنظرية «تضخُّم أعداد الشباب» حسب المدرســة الأنكلوأمر­يكية، حيــث أن أعمار من يخُوضُــون الحروب عبر التاريخ تتراوح ما بين 15 و29 سنة بسبب التغيير في النمو الديموغراف­ي الذي يتحكم في دينامية الهرم الاجتماعي.

ولنــا عِبَرٌ ومُؤشــرات اجتماعية دالّةٌ جِداًّ في ظواهــر أغاني الراب، التــي هي تعبيرٌ حدّيٌّ مُتَشَــنِّجٌ عن وِجدان ونفســية الشــباب المغربي الغاضب، وفي ظواهر «التشــرميل» ومجموعات الفيسبوك والإلترات،

أي جماعات الُمشَــجِّعين. ولأن الأشــياءَ في نظام التاريخ تسير بتفاعل أضْدَادِها، فإن طَفْرَةَ الإسلام السياســي، جاءت نتيجةً حَتْمية للمبُالغة في طرْح خطابات سياســية وثقافية مُتعارضة مع الوِجْدان الاجتماعي، زادَها تأزيما اســتفحالُ نظام الاتصال الرقمي العَوْلَمِي في ظل ســيادة الرؤية التّقْنَوِيّة للتنمية، وانعدامٍ لأي مشروع ثقافي وطني تَوْجيهي عبر منظومة التربية والإعلام، ونتيجة لإخفاقاتِ مؤسسات الدولة والأحزاب في تقديم سياسات عمومية تحقق درجة من الرضا العام.

لقــد كانت هذه العوامــلُ مفتاحَ القــوة الضاربة لانتعاش الإســام السياســي، الذي لم تصمد أمامه دهاليزُ الُمنافسين ومن تبِعَهُم بالإسناد خلال 10 سنوات من الزمن العمومي.

بهذا التَّدْلِيس الشــعبوي والتنويم المغناطيسـ­ـي، صار الذي يصوِّت لحزب العدالة والتنمية يَتَوَهَّمُ أنه يُحْيِي دين الإســام، ويُدافع عن كلمة الله أمام سُــفُور وتَجْدِيف المجتمــع بباقي مُكوِّناتــه. ومثلما كان الدينُ وسيلة لمكاســب الدنيا عند مختلف الديانات، كلٌّ حسب سِيَاقِها الزمني والاجتماعي، فإن الإسلام السياسي، كان وسيلة للتَّدِليس على المغاربة، بتحريك لاوعْيِهِم الشــعبي، وتحريك عُقدةَ الشــعور بالذنب تجاه الله/ الدين، تحقيقا للتوازن النفسي الواهِم.

وإذا كان النبــوغُ المغربــي قد اســتطاع ترويضَ الهَبّة، باســتيعاب الاعْتِمالِ الديني للعبور إلى الاستقرار النســبي، فإنه بذلك جنّب البلادَ والعبادَ مَطبّات المجهول الســحيق، الذي ســقط فيه الكثير من البلدان العربية، وكبّدها نتائج وخيمة وفادحة، على الإنســان، من حيث مئات الآلاف من القتلى، وملايين الُمشَــَّردِين في الملاجــئ والُمغْتَرِبِينَ في المنافي والفيافي، ثم مئاتُ آلافِ المعطُوبين جســديا ونفسيا. كما كانت مُخلَّفاتُه وخيمةً على العُمْران، من حيــث الدَّمارُ الهائل الذي أعاد تلك البلدان إلى الــوراء عقودا من الزمن. بينما تأثر المجالُ باســتنزاف ثرواتِ ومُقدّرات أجيالٍ من تلك الشعوب.

أما علــى مســتوى الوِجدان، فــإن فقــدان الســيادة الوطنية ولو بِنَوَاقِصِها، مكّــن الُمتدخِّلين الدوليين والإقليميي­ن مــن الجهر، وما يخفى من تمزيق السَّــَدى الوطني وإثارة مختلف النَّعَــرات الإثنية والعقدية والتاريخية.

في المقابــل، فالنبــوغ المغربي الذي جَنّــبَ الأرض والإنســان هذه الَمتاهات، لم يســتثمر الُمنجَزَ التاريخي بالعمق المأمول لترسيخ أساساتٍ ودعاماتٍ وطنية صَلْبة وصَلْدة، يُمْكِنُ أن نُشيِّد عليها مغربَ الديمقراطي­ة

والتنمية، كي يحسُّــها المواطنُ في حياته اليومية، ونرفع منسوب الثقة في مؤسســات الدولة، اقتناعا وليس تَقِيَّةً. الديمقراطي­ة والتنمية التي تصنع الفــارق الملموس في الواقع الملموس، لا تلك التي تبقى تَوْشِــيَاتٍ في الخُطَب والتقارير والأرقام الرســمية، بحيث إن المغرب يعيش حالةَ انفصامٍ حادٍّ بين خطاب التقارير، وحياة الناس وخطابِهم الأليم. وهو ما يجعل منسوب الاستياء والنِّقْمة والإعْراض عن كل ما هو رسمي براديغمَ المرحلة المغربية، مع ما يحمله من أخطار ذهنية ومعرفية على فكرة الدولة وقِيَمِها وقِيَامِها.

من هنا، فإن تنشيط ذاكرة الشعب بما أسمّيه «الهبّة العربية» يتراكم في طبقات اللاوعي الجمعي، ويأخذ أشــكالا ومظاهر متعددة، هي عبارة عن أقنعة للخطر المقبل والدَّاهِم.

وما دُمْنا كأمة مُقبِلين على الولاية الثالثة لتجديد الهياكل السياسية، التي يُفترَض أنها تعبيرٌ عن الإرادة والآمال المجتمعية الشــعبية لتُدبير شؤون الحياة، والإسهام في الحُكم إلى جانب الحاكمين، فإن هذه الفرصة التاريخيــ­ة في ظل حِنْكَةِ الاســتقرا­ر المغربي الثمين، وجب اســتثمارُها واستخلاصُ العِبَرِ والدروس الوطنية منها، بلا التفاف على فكرة التعاقد الاجتماعي، أو استغفالٍ لروح المغاربة وإهدار من عُمْرِ الدولة.

حاصل الكلام

تؤكد البراديغما­تُ أعلاه أن الهبّــة التاريخية افتقدت الإطار المعرفي والفكــري الناظِم، افتقدت طليعــةٌ اجتماعيةٌ مؤطِّــرة، وأرضيةٌ ذهنية تنويرية بمشــروع وطني بديل، رغم نُضْج الدوافع النفسية والُمحَفزٍّات البنيوية. لقــد كانت الهَبّةُ العربيةُ أَشــبَهَ بانفعــال تاريخي، ناجم عن الإحســاس الُمتَفَاقِمِ بالحَطِّ مــن الكرامة العامة، وانتفاضٍ رومانســي شــعبوي حول واقع مُسْــتفزٍّ، لكنه انتفاض تَعُوزُه الواقعيةُ التاريخيةُ. إن تَذبْذب المؤسســات الرســمية وضعف التنظيمات الحزبية وضحالة المجتمــع المدني، ويأس النُّخب، هــو التعبير الأَجْلَــى والتأكيدُ الأَوْضَحُ على استفحال الاســتياء الُمنْذِر في السيكولوجي­ة المغربية. إنه الاستياء الذي يُعتَبَرُ ديناميت مرحلة الكمون، فالرجاءُ أن يُسعفَنا النبوغ المغربي لحماية وصَوْنِ هذا البلد الأمين.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom