Al-Quds Al-Arabi

إعادة تدوير المعتقلين... رسائل النظام الواضحة

- * كاتب مصري

خلال الأســبوعي­ن الماضيين أُلقي القبض علــى الصحافي الكبير والمعــروف جمال الجمل، لدى وصوله إلى مطــار القاهرة، عائداً من منفــاه «الاختياري» في تركيــا، ومنذ قرابة الثلاثة أيــام تم «تدوير» المحامي الحقوقي والمناضل اليســاري هيثم محمدين في قضيةٍ جديدة، ولم يكد حبر قرار إخلاء سبيله قبل ذاك بيومٍ قد جف.

ليــس هذان همــا الوحيدين، بل مجرد حصيلــة بضعة أيام الســابقة من الذين أعرفهم أو تربطني بهم شــخصياً علاقةٌ ما مــن صداقــةٍ أو أصدقاء مشــتركين، أو حتى لقــاءٍ عابر، وقد ســبقهم )ولحق بهم بكل تأكيد( عشــرات الآلاف، وبالأخص في قصة تدوير المتهمين المرعبة هذه.

باختصــار، تتلخص ما صــارت تُعرف بظاهــرة «التدوير» في اســتمرار حبس المعتقلــن على ذمة قضايــا أخرى بعد ما صدر في حقهم قرارٌ بإخلاء الســبيل، لاســيما وأنهم كثيراً ما يكونون محبوســن احتياطياً، يُمد لهم. غنيٌ عن الذكر أن تلك القضايا ملفقةٌ ويتم اتباع أســاليب متفاوتــة من عينة الإطالة

والمناورات والترحيل من مكانٍ، أو قسمٍ لآخر بغرض تخليص الأوراق، إعداداً لإطلاق السراح، وأحياناً قد يفرج عنهم فيرون الشــارع بالفعل، ثــم لا تلبث القضايا الأخــرى أن تهبط عليهم كالجبــال، فيُســحبون مــرةً أخرى إلى الســجون، مــع ما في ذلك من تعذيبٍ نفســي ســادي، حيث يجعلــون الناس يرون البــاب إلى الحرية يُفتح، أو بالكاد يعبــرون منه، ثم ما يلبثون أن يُشــدوا إلى الوراء، إلى الحبس، مــرةً أخرى كي يتضاعف عذابهم وتتعمــق معاناتهم. والحقيقة أنه بعد هذه الســنوات التي قضاها السيســي في الســلطة، فإننا نســتطيع أن نصل إلــى اســتنتاجا­تٍ واضحة عن «أســلوب عمل» النظــام في ما يخص المعارضة، منهجاً وممارسـًـة، أفراداً وجموعاً، بل نقرر أنه متســقٌ وواضح، وأن أي لبسٍ في فهم أهدافه وأولوياته، راجعٌ في الأســاس لإرادة العمى لدى المتلقي، ورفض مواجهة الواقع وخداع الذات.

ثمــة ملمحان أو تطوران رئيســيان يصيغان هــذه المرحلة، انطلاقــاً مما صرح به السيســي مــن دون مواربة، بــأن ثورةً أخــرى لن يُســمح لهــا أن تقوم فــي مصــر. أولاً، وعلى عكس الفترة الســابقة والممهدة لثورة ينايــر، فأجنحة النظام الأمنية تعمل بتنسيقٍ وفق تصورٍ واحد، ينطلق من قناعة بأن التعامل مع أي بــوادر معارضة لا بــد، ولا يمكن إلا أن يكــون أمنياً في المقام الأول والثاني والثالث؛ في ســبيل تحقيق ذلك مسموحٌ باســتخدام كل الأســاليب مهمــا كانت قســوتها، ولا ســقف للعنــف، والأهــم من ذلك فــإن أحداً مــن المنظومــة الأمنية لن يحاســب عــن دمٍ أو عرض، كما صرح السيســي بنفســه. أما الملمح الثاني فإن باب المهادنة أو الرحمة أو الرأفة )كالمعارضة تماماً( قد أغلــق، والعداوة حتى النهاية من دون إعادة نظر أو اســتدراك، وكذلك الرغبة والشــهوة للانتقام فــا حد لها ولا لاجم، وهي عداوةٌ شخصية في حالة كثيرين، كهيثم محمدين وزياد العليمي وعلاء عبد الفتاح على ســبيل المثال لا الحصر،

فهم باقون في السجون ما بقي السيسي، وما لم تتدخل جهةٌ دوليــةٌ ذات ثقلٍ واعتبارٍ في صفهم، وهــم يعلمون ذلك جيداً؛ فلن توضع اعتبارات المكانة أو السن أو المرض في الاعتبار، بل صار الرأي المخالف في أي لحظة كالجريمة الجنائية تماماً، لا بــد أن يلقى عقابــاً، حتى لو رجع فيه صاحبــه فاعتزل الدنيا، ومشي إلى جانب الحائط. لم يعد يصح الحديث في مصر عن مصــادرة المجال العام، أو تضييقه، فقد مُســح أو أجهز عليه، والنظام )والمؤسسة العسكرية تحديداً في نهمها اللامتناهي( يريد أن يفرض نفوذه على كل شــيء، فبينما يضغط في تنفيذ أجندته الاقتصادية التي تهدف إلى التحلل التام من أي التزامٍ للجمهــور الأوســع، تجــده يدفع الحــدود ليرى إلــى أي مدىً يستطيع أن يصل، من دون رد فعلٍ شعبي يرغمه على التراجع )ولــو وقتياً( كقانون تســجيل العقارات مثــاً، وهو لم يكتف بالســيطرة علــى الإعلام فحســب، بــل حبــس كل معارضيه، وكل من قد تســول له نفســه المعارضة ما اســتطاع، أي ما لم يكن هناك في الخارج دولةٌ أو رئيســها سيســأل عن السجين ويطالب بإطلاق سراحه، وهذه بدورها تخضع لموازناتٍ تضع فــي عين الاعتبار مــا قاله أو فعلــه المعارص، ومقدار شــهرته ومــن ثم تأثيره وثقل المطالبين بإطلاق ســراحه، فحين يطالب ترامب بإطلاق ســراح آية حجازي، غير منظمة العفو الدولية، أو منظمة حقوقيــة مصرية لها الله مع آلافٍ من غير المعروفين )في هــذه الحالة قد يقبض على الحقوقيــن لينضموا إلى من يدافعون عنهم كما حدث مراراً(.

الخلاصــة أن السيســي الــذي يبنــي عاصمةً جديــدةً في الصحــراء، بعيداً عــن وادي النيل لأغــراضٍ أمنية فــي المقام الأول، متجاهلاً ومخاصماً حكمة آلاف السنين هي عمر مصر، يريد لا فقــط أن يعيد هيكلة المجتمــع والجغرافيا الاجتماعية، بحيــث تنعــزل الدولــة والطبقات الميســورة في مســتعمراتٍ محصنــة، وليأكل الآخــرون بعضهــم بعضــا، أو يذهبوا إلى الجحيــم، بل يريد أن يخلق نســقين للوجود داخــل هذا البلد: خارج الأســوار ووراءها. عالمان متوازيان تماماً، الأول، خارج الأســوار لك أن تعيش، تبحث عن عمل، سكن، تتحمس لفريق كرة قدم في الدوري الممتــاز، أو كأس مصر أو بطولة افريقيا، أو منتخب كرة اليد، تخدع نفســك بأنك حر وأن الأمور على ما يــرام، وأن البلد محاط بالمؤامــر­ات مردومٌ بالإشــاعا­ت، لكن إياك إيــاك أن تتحدث في السياســة أو تتصــور أنك تملك من الأمر شــيئاً، أنت مجرد زائــرٌ أو عابر، عاملٌ كمــا في الخليج، والسيســي ونظامه هم «الكفيل» أما العالــم الآخر، ذلك الذي يعــرف الجميــع بوجــوده، حتــى إن تعامــى وأنكــر البعض، فالداخــل فيه «مفقود والخارج مولود» كما يقول المثل الدارج، تستباح فيه كل القيم وعلى رأسها الحرية والكرامة والشرف، يــدور النــاس فيه ويلفون مــن حبسٍ إلى حبــسٍ ومن محكمةٍ إلى قســم، واقع «كافكاوي» نسبةً إلى كافكا الروائي الشهير فــي رواية «المحاكمــة» ولا يفرج عن الناس إلا ليعاد حبســهم، أو حــن يصلــون إلى تطليق السياســة وإثبات ذلــك، أو حين يصبحــون حطام بشــر، أو ليموتوا كما حدث مــع الصحافي الراحل محمد منير. ليس ذلك فحســب، بل إن هؤلاء والدوامة التي يدورون فيها يســتخدمون كفزاعةٍ لمن خارجها، تســاعد النظــام علــى ترويضهــم؛ وقد يهــادن النظــام أمــام الجموع أو يتراجــع في المســائل الاقتصاديـ­ـة، أما قضايــا الرأي فلا، والمعارضــ­ون صــاروا متاعاً حصريــاً له، يفعل فيهــم ما يريد ويطلق يد ضباطه وجلاديه.

ليس لما يخلقه السيســي من تشــويهٍ للوعي وقمعٍ وإرهابٍ وتبديدٍ ســوى مســمى واحد: الكابوس، وللأسف فبالصورة التي تســير بها الأمور لن يدرك الكثيــرون هذا إلا حين يفيقون منه، وســيكون ذلك متأخــراً جداً وســيكون الآلاف قد دفعوا أعمارهم أو زهرتها ثمناً.

ظاهرة «التدوير» استمرار حبس المعتقلين على ذمة قضايا أخرى بعد ما صدر في حقهم قرارٌ بإخلاء السبيل

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom