Al-Quds Al-Arabi

ذكرى الكومونة: العدالة الاجتماعية جوهر السياسة

- ٭ كاتب تونسي

■ من دهاء إمانويل ماكرون أنه قفز رأسا من حبو الطفولة السياسية إلى قمة السلطة بفضل نجاحه في تسويق زعم مثير مفاده أن الميز بين اليمين واليســار لم يعد له من معنى في السياســة، وأن خط الفرز الوحيد فــي عالمنا الجديد إنما هو بين التقدميين المستبشــر­ين بالثورات التكنولوجي­ة وبـ»العولمة الســعيدة» والمحافظين اللائذين بالماضي الوجلين مــن التغيير. إلا أن أحداث العالم الجديد ســرعان ما بكّرت بتكذيب هذا الزعــم أبلغ التكذيب، مثلما تجلّى منذ عامين في زخم حركة الســترات الصفر التي أطلقت انتفاضة شعبية في فرنسا ضد مظالم النظام الاقتصادي النيولبرال­ي ومفاسده.

أما التكذيب الأحدث فقد أتى بمناسبة الاستعدادا­ت لإحياء الذكرى الـ150 لانتفاضة كومونة باريس يوم 18 من هذا الشــهر. إذ إن حنق النائــب عن حزب الجمهوريين في المجلــس البلدي لباريس رودولف غارنيي على هذه الاستعدادا­ت قد حمله على أن يعترض على اقتراح تخصيص منحة ماليــة لجمعية «أصدقاء كومونة باريس 1871» التي اتهمهــا بتمجيد حرائق الكومونــة وأعنف أحداثها، كمــا اتهم عمدة باريس الاشــتراك­ية آن هيدالغو بترويج الأباطيل التاريخية بغرض إعادة توحيد الاشتراكيي­ن والشــيوعي­ين والخضر في سياق مسعاها لخوض الســباق الرئاســي العام المقبل. فما كان من رئيس الجلسة، الاشــتراك­ي باتريــك بلوش، إلا أن قــال له: ما يطمئننــي أني مؤمن بالتضادّ بين اليسار واليمين، وها أنك قد أكدت صحة هذا التضاد بعد 150 سنة كاملة على أحداث الكومونة.

أمــا ما يترتب على ما ســبق فحقيقتان. الأولــى أن قضية العدالة الاجتماعيـ­ـة لا تزال هي محور الصراع السياســي في كل المجتمعات. الثانيــة أن الأمم تحيا بذاكرتها، ولهذا يبقــى الحاضر متجاوبا مع ما يتصادى فــي أرجائه من أصــوات التاريخ. وهذا مــا بيّنته المؤرخة لوديفــن بانتنيي في كتابها «الكومونة في الحاضــر» الذي ألّفته في صيغة رســائل خاطبت بهــا مناضلي الكومونــة ومناضلاتها تدليلا على أن الإشــكالا­ت التي يعيشــها المجتمع الفرنســي اليوم )انتشار البطالــة، تدني الأجور، عدم تقدير الكادحين الحقيقيين مثل الممرضين والمعلمــن حق قدرهم لا ماديا ولا معنويا، انعدام الثقة الشــعبية في النخبة السياســية، الخ( قد أحيت القضايا التــي كان يحتدم حولها الصراع السياســي في فرنسا زمن انتفاضة الكومونة. وكان من أظهر العلامات علــى حيوية هذا الاتصال بين الواقع والتاريخ أنه قد رفعت فــي مظاهرات الســترات الصفر لافتات تمجد ثــورة 1789 وكومونة 1871، كما رفعت في مظاهرات المعلمين والأســاتذ­ة ضد وزير التعليم جان ميشال بلانكي لافتات تقول: نريد القليل من جان ميشال والمزيد من لويز ميشال )أشهر بطلات الكومونة(.

وتــرى المؤرخة أن راهنيّــة الكومونة، عبر ديمومــة قضية ما كان مناضلوها يسمّونه «التحرّر من نير رأس المال» لا تتجلى في الحركات الاجتماعية في فرنســا فحسب، بل وفي انتفاضة الزاباتيست­ا بولاية التشــيابا­س المكســيكي­ة، وحركة الغاضبــن في إســبانيا وحركة «أوكيوبــاي» في أمريكا. هذا فضــا عن أنه قــد كان للكومونة، فور اندلاعهــا، أثر عالمي امتد إلى بلدان مثل الجزائر والمكســيك. إذ يوثق المــؤرخ كنتــان دوليرموز مدى الشــغف الذي تابعت بــه الصحافة المكسيكية أحداث باريس، كما يسجل اقترانا، عفويا ومنطقيا في الآن ذاته، بين الكومونة والانتفاضة الأمازيغية ضد الاســتعما­ر الفرنسي في الجزائر بين 1870 و1871.

والحــق أن الكومونة )التــي دامت 72 يوما فقط قبل أن تســحقها قوات «حكومة فرســاي» المتعاونة مع الجيش الألمانــي الذي كان قد هزم فرنســا وأحكم الحصار على باريس أربعة أشهر اضطر السكان أثناءها لأكل الجــرذان والقطط والكلاب( قد ألهبــت خيالنا، ونحن بعد مراهقون، لأن دروســنا في الأدب الفرنسي كانت تتضمن ثلاثية الروائي والصحافي جول فاليس )الطفل.

الطالب. المتمرد( الذي كان )هو والرســام غوســتاف كوربي( من أشــهر مناضلي الكومونة، وقد حكم عليه بالإعدام فلاذ إلى لندن ولم يعد إلا بعد صدور العفو العام في 1880.

ولا تــزال الكومونــة قويــة الحضور فــي الثقافة الشــعبية عبر أهازيج وأغان كثيرة عرفنا منها منــذ الصغر مقطوعتي «زمن الكرز» و«الكومونة لم تمت».

وسبب انقسام المؤرخين حول الكومونة أنها واقعة تاريخية مكتنفة بهالة الأسطورة وأنها حرب أهلية بقدر ما هي حرب طبقية. ومن أبرز العلائم على طابعهــا الطبقي أن كتّابا بورجوازيــ­ن، من أمثال زولا وفلوبير وجورج صاند وأناتول فرانس، قد ناهضوها وعدّوا ثوارها رعاعا وهمجا. إلا أن فيكتور هيغو، الذي كان آنذاك في المنفى، قد ندد بوحشية القمع الحكومي أثناء «الأسبوع الدموي» وعبر عن تضامنه مع الثوار بصور متعددة كان أشــهرها قصيدته «إلى الذين يوطؤون بالأقدام» المضمنة في ديوان «السنة الرهيبة». تلك هي التسمية التي أطلقها هيغو على الســنة الممتدة من صيف 1870 )هزيمة فرنسا أمام ألمانيا( إلى صيف 1871 )سحق الانتفاضة الشعبية(.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom