Al-Quds Al-Arabi

تمهيد ضروري لإعادة تناول ما يجري للجيش المصري

- ■ ٭ كاتب من مصر

إنتهينا في المقال الماضي إلى المطالبة بوقفة تعيد النظر فــي مجمل أحوال مصر الرســمية، وفيمــا تعاني من جراء زيادة معدلات الفقر، حســب بيانات وإحصائيات «الجهاز المركــزي للتعبئة والإحصــاء» (الحكومــي( ومن الصعب تناول أحوال المؤسسة العسكرية دون الإشارة إلى تاريخها وأهميتها، فلا يمكن إنكار أو تجاهل وجود مؤسسة عسكرية في أي دولــة من دول العالــم؛ القديم والحديــث.. المتقدم والنامي، فبدونها تفقد غطاء الحماية من المخاطر والتدخل والغــزو الخارجي، فدولــة بلا جيش قادر لا تســتطيع أن تعيش، فسويســرا؛ الدولــة المتقدمة المحايدة لم تشــتبك في حــرب منذ قرون؛ لديها جيش من أكفــأ جيوش العالم، وأســلحته من أكثر الأسلحة تطورا وفعالية، وكما اشتهرت بصناعة الساعات الثمينة اكتســبت نفس الشهرة بإنتاج الأسلحة المتقدمة والدقيقة.

وسويســرا المحايدة دافعت عــن أمنها القومــي أثناء الحربــن العالميتين الأولــى والثانية، وأســقطت طائرات معاديــة انتهكــت مجالها الجوي، ولــم يُعْتَبــر ذلك خرقاً للحيــاد، ومــا زال العالــم يشــجعها على التــزام الحياد والحفاظ عليه، والابتعاد عن المحاور والأحلاف، أو ممارسة سياسات توســعية واســتعمار­ية، واكتســبت سياستها حصانة بما يُعرف بـ«الحياد الإيجابي المســلح» ولم يمنعها ذلك من الاعتماد على جيش كفؤ، وذي قدرة قتالية متميزة، وتجنبت الحروب وويلاتها على مدى قرون.

والقــوات المســلحة المصريــة تعد أقدم جيــش نظامي تاريخيا، وتعلقت أولى عملياتها العســكرية؛ بقيادة «الملك مينا» بمهمة «توحيد القطرين» في عام 3400 ق.م، وتوحدت مملكة الجنوب مع مملكة الشــمال، وكاد الموقف يتكرر بعد أكثر من 5000 ســنة من توحيد مصر، وبعد الحرب العالمية الثانية كانــت في طليعة المتصدين للمشــروع الصهيوني، وقبيل قيام الدولة الاســتيطا­نية في فلسطين؛ بادر ضباط وطنيون بالاســتقا­لة من جيش «المملكة المصرية» وتطوعوا للحرب في فلســطين، وكان ذلك قبيل إعلان الحرب رسميا، واشــتراك القــوات المصرية فيهــا، وحل دورهــا في صد العــدوان الثلاثي عــام 1956، وهو عام شــهد خروج آخر جندي بريطاني، وكان جيشها ما زال صغيرا، وتم تعويض

ذلك بإقامة معسكرات تدريب عسكري للطلاب والشباب في أنحاء البــاد، وإلحاقهم بمتطوعي المقاومة في بورســعيد وعلى امتداد مدن قناة الســويس وغيرها من المدن، وانضم إليهم ضباط سوريون؛ منهم الضابط البحري جول جمال، الذي استشهد في المعارك، وكان للفدائيين الفلسطينيي­ن دور مؤثر في صد العدوان.

وبعد الانفصــال، وفصم عــرى «الجمهوريــ­ة العربية المتحدة» وفصل ســوريا عن مصر تحركت القوات المسلحة لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل تاريخ 28 سبتمبر 1961، وتحركت قوات المظلات المحمولة جوا من قواعدها في الإقليم الجنوبي )مصر( الى اللاذقية في الإقليم الشمالي )سوريا( وتراجع عبــد الناصر عن قراره، وأمر بإعــادة القوات الي قواعدها، وأمر قائدها بتســليم نفســه ومن معه للسلطات السورية؛ كي لا يرفع شقيق السلاح في وجه شقيقه!!.

وتجددت المحاولة في يوليو 1963 عقب زيارة سرية قام بها «العقيد جاســم علوان» لمصر؛ التقى فيها عبد الناصر؛ واضعاً بين يديه خطة لاســتعادة الوحدة، ووافق الرئيس الراحل على تنفيذهــا، وكانت النية، إذا ما نجحت؛ الإعلان عن عودة ســوريا لدولة الوحدة، وذلك في خطاب الذكرى الحادية عشــرة لثــورة 1952 في يوليو عــام 1963، وفي حالة الفشل ينســحب من اتفاقية الوحدة الثلاثية؛ الموقعة مع العراق وســوريا، وفشــلت المحاولة وتم الانسحاب من الاتفاقيــ­ة الثلاثيــة، وزجت الســلطات الانفصالية بمئات الوحدويين السوريين في سجن المزة بدمشق.

وفــي محاولة ثالثة قام بها الضابط الســوري جادو عز الدين )يوليــو 1964(؛ وتنطلق من الأراضي العراقية؛ على ثلاثــة محاور: الأول محور المنطقة الشــرقية من ســوريا؛ دير الــزور ومنطقة الجزيرة، والمنطقة الشــمالية في حلب وتوابعهــا، والثاني محور دمشــق، والثالث محور المنطقة الوســطي؛ تدمر، حماة، حمص وتوابعهــم. وتغير موقف عبــد الناصر، وأبلغ عــز الدين وقف التنفيــذ، وعُرِف ذلك الســر بعد مرور 25 عاما من موعد العملية، ورواه عز الدين موثقا، وكَشْف معلومات؛ مصدرها الرئيس اللبناني وقتها؛ اللواء فؤاد شــهاب، الــذي نما لعلمه نصب واشــنطن فخ لعبد الناصر لاستنزافه، وألغيت تلك ألمحاولة. وبعد هزيمة 1967، وتنحي عبد الناصر؛ وتحمله مسئولية ما وقع؛ خرج الشــعب رافضا الهزيمة ومطالبا ببقائه، وتقديم المسؤولين عن الهزيمة للمحاكمة.

بدأت مرحلة جديدة؛ أعيد فيها بناء مؤسســات الدولة، وضبط وتنظيــم الجيش، واعتماده علــى حملة المؤهلات العلميــة والجامعية في تشــكيلاته الجديدة، وبدأت حرب الاســتزاف بـ «معركــة رأس العش » فــي أول يوليو 1967 ؛ بعد أيام من وقف القتــال، وكانت الحرب الأطول في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وتحملت القوات المسلحة أعباء التدريب النوعي، والقتال بالتســلل لصفوف العدو، وقدم الشــعب تضحيات جمة، وتحمل الأعباء كاملة، واستعادت القوات المسلحة لياقتها، وكانت قاب قوسين أو أدنى لعبور القنــاة وتدمير «خط بارليف» وفجــأة يرحل عبد الناصر، وودعته مصر والشــعب العربي في جنــازة ما زالت الأكبر فــي التاريــخ، وبعد ثلاث ســنوات من رحيلــه تم العبور وتدمير «خط بارليف»؛ المحصــن بخزانات «نابالم» حارقة لالتهام من يعبــر، وتم تعطيلها قبيل الســاعة الثانية بعد ظهر الســادس من اكتوبر 1973، وتحقق النصر العسكري العظيم.

كانت الثقافة العسكرية السائدة قد استقرت على مبادئ ونظريات الجنرال الألماني

وعند التدقيق في العوامل المؤثــرة على تكوين القوات المســلحة المصرية نجــد التجنيد الإجباري لعــب دورا في فتح وانفتاح المؤسســة العســكرية على الشعب والمجتمع، وعند التوقف الإنجازات الكبــرى، وتكاثر الفتن؛ مثل الذي حــدث تاريخيا من إغــارات البدو، وتفشــي أعمال النهب وقطع الطرق، وذلك أوقع مصر تحت ســنابك خيول الفرس والرومان والبيزنطيـ­ـن والإغريق. وجــاء الفتح العربي والإســامي فغير مصر نوعيا، ومكنها من استعادة دورها المحوري المؤثر. والتكامل مع الشام. واختيار دمشق عاصمة للدولــة الأموية، فحلت محــل «المدينة المنــورة»؛ عاصمة الخلافة الراشــدة، وبانتصــار العباســيي­ن أضحت بغداد عاصمة الدولة الجديدة، واســتمر ذلــك حتى ظهور الدولة الفاطمية في «المهدية» بتونــس وإنتقالها إلى مصر، وبناء القاهرة عاصمة لها.

ومــع ظهــور صــاح الدين الأيوبــي وانتهــاء الحكــم الفاطمي؛ اســتجلب الأيوبيون المماليك، وســرعان مــا قويت شوكتهم، وتمكنوا من الحكم في القرن الثالث عشر الميلادي (1250م(. وكانوا قد وفدوا في سن مبكرة من أمصار وأقاليم غير عربية وغير إســامية، ويعدون عســكريا على النسق «الاسبرطي» فاستوطنوا مناطق وثكنات معزولة؛ وتمرسوا على الفروسية، واكتســاب مهارات القتال وفنون الحرب، وكانوا ذوي بأس؛ ساعدهم في استقرار الحكم واستتباب الأمن، وحين نالهــم الضعف انهزموا أمــام العثمانيين في 1517م؛ ثم جاءت الحملة الفرنسية؛ مصحوبة بقلاقل وعدم استقرار؛ وبعد هزيمتها تولى محمد علي ولاية مصر 1805م، فوجــد المماليك عقبة أمــام طموحه، فتخلــص منهم، وركز اهتمامه في بنــاء جيش عصري قــوي، وحقق انتصارات عســكرية وسياســية واقتصادية وعلمية كبرى، ونتج عن إلحاق أســاطيل بريطانيا وفرنســا وروسيا؛ إلحاق الأذى بالأســاطي­ل العثمانية والمصرية والجزائرية في «نفارين» عام 1827، فغزت فرنســا للجزائر واحتلتها واســتوطنت­ها عام 1830 .

وخاب ظن مــن اعتبر انتصــار الجيــش المصري على الدولة العثمانية فــي «نصيبين» نهوضا من «كبوة نفارين» وكان الانتصــار قــد تعــزز بانضمام الأســطول العثماني للأســطول المصري؛ بســفنه وقواته، وكانوا نحو خمسين سفينة، وثلاثين ألف مقاتل، وثلاثة آلاف مدفع، واستقبلتهم الإســكندر­ية بحفــاوة. وتضاعفت قوة مصر العســكرية والبحرية بــن دول البحر المتوســط. ورجحت كفتها على الأســاطيل العثمانية، ومع ذلك تعرضــت لضغط أوروبي كبيــر وكثيف، ورغم قوتها تلك بقيت ولاية عثمانية، إلى أن تم اصطيادها بمعاهدة لندن عام 1840م، التي ضيقت عليها، وأخرجتها من الشــام والحجاز وكريت وأضنة؛ وتقلصت قوتها العســكرية إلى 18 ألف جندي، بعد أن كانت 235 ألف جندي لبلد تعداده يزيد قليلا عن أربعة ملايين نسمة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom