«التايمز»: الحرب السورية نشرت الرعب في الغرب وغيرت مسار العالم إلى الأبد
نشــرت صحيفــة «التايمــز» تقريــراً في ذكــرى مــرور عشــرة أعــوام علــى الثــورة السورية أعده مراسلها في الشرق الأوسط ريتشــارد سبنســر، وتســاءل فيــه: «كيف نشــرت الحــرب فــي ســوريا الإرهــاب في الغرب وغيرت العالم للأبد؟». مشيراً إلى أن الفلسفة السياسية كانت على أجندة نقاش بشــأن ســوريا دار في أيار/مايو 2013 بين مجموعة لحقوق الإنسان في الرقة.
وتناقش المجتمعون حــول كيفية تحويل ســوريا نفســها إلى بلد يلتــزم الديمقراطية ويمنح الحريات المدنية، وهل يمكن لأرسطو أن يرشد في هذا، قال أحد المشاركين الذين درســوا في الجامعة. واتفق الجميع على أن أوروبا يجــب أن تكون نموذجًــا. وكما قال أحد الحاضرين، فإن ســوريا قــد تتقدم من أثينا إلى الاتحــاد الأوروبي دون أن تمر في 2500 عام بينهما.
وســتحل الذكــرى العاشــرة للثــورة الســورية يــوم الاثنــن المقبــل، حيــث عُقد النقــاش هذا في الســنوات الأولــى للثورة. وكان المعارضــون لنظــام بشــار الأســد قد ســيطروا علــى مناطق تمتــد مــن حلب في الشــمال إلى درعــا في الجنوب، إلــى الرقة ودير الزور في الشــرق. وكان النظام يترنح فــي وقت ضغــط فيــه الغرب علــى الرئيس بشار الأســد للتنحي جانبا أو التفاوض مع المعارضة حول انتقال سياسي للسلطة.
ساسة شعبويون
وفــي إطار آخــر، كانــت الانتفاضة نقطة تحول، حيث بدأ الأســد يقصــف بالبراميل المتفجــرة حتــى اســتعاد معظــم المناطــق التي خرجــت عن ســيطرته. وتتحول الرقة التــي جــرى فيهــا النقــاش حول «ســوريا ديمقراطيــة» إلــى مضــرب المثل فــي حملة جهادية قامت بتصويــر عملية قتل جماعي وقطــع رؤوس. وكانــت نقطة تحــول لبقية العالم أيضاً، ولم تتحول سوريا إلى بلد مثل الغرب، لكــن الغرب هو من اســتورد النزاع السوري، وهجماته الإرهابية، والاستقطاب السياســي ونقاشــاته الطائفيــة الشرســة حول الدين والهوية الوطنية.
ووصل ساســة شــعبويون مثــل نايجل فاراج في بريطانيا إلى الســلطة مســتغلين مشــاهد ملايين الســوريين الذين فــروا إلى الشــمال والغــرب. وأدى النقــاش حــول
ما يجــري في ســوريا وبخاصــة الهجمات الكيميائية إلى ظهور مصطلح «أخبار مزيفة » واستخدم في الاستغلال السياسي.
وفــوق كل هــذا، أدى فشــل الانتفاضــة الســورية إلــى انتشــار عــدم الثقــة بفكــرة الديمقراطيــة نفســها، ممــا عــزز النظــام المدعوم من روســيا والصــن. وقال جيمي شــاهينيان مــن الرقــة، والــذي شــارك في أيام الانتفاضة الأولــى واعتُقل وعُذب أكثر من مــرة: «أصبحت ســوريا ســاحة للقوى الدوليــة للتنافــس عليها». وفرّ شــاهينيان في النهاية بعد سيطرة تنظيم «الدولة» على الرقــة وأنشــأ ديكتاتوريتــه الخاصة وتبع خط المهاجرين إلى ألمانيا. وقال: «أنا سوري وبلدي ســوريا وانتمي إليها». و»أنا سوري معتدل بعيداً عــن انتمائي العرقي أو الديني وأنــا فخور بهذا، لكن ســوريا الآن مهشــمة وحزينة ومفككة .»
لكــن ليســت ســوريا وحدهــا هــي التي تعيش أزمة، بل العالم كله، كما أشــار رامي، الناشط السابق والذي يعيش في أستراليا، حيث قال: «في ســوريا حصلنا على شرف الســبق». وقبل الحرب كان قلة في الشــرق الأوســط قد ســمعوا بالرقة، فهــي عاصمة محافظــة على نهــر الفرات، وســيطر عليها المعارضون قبل شــهرين من جلسة النقاش التي أشــرنا لها في الأعلــى. وتُعرف مدينة الرقة في ســوريا بأنها مدينــة ليبرالية رغم وجودهــا داخل المجتمع المحافظ في شــرق البــاد. وكان فيها كازينو وحانة وكنيســة ونساء يخرجن دون حجاب. ونظر المثقفون الذيــن التقــوا فــي أيــار/ مايــو 2013 فــي المدينة لأنفســهم بأنهم طليعــة التقدم. لكن بــذور ما تبع ذلك كانــت موجودة. وكما في المدن الأخرى، فقد ســيطر علــى الانتفاضة جماعات الناشــطين، متعلمون درســوا في أنظمة منفتحة على العالم الخارجي. وكانوا يعتقــدون بإمكانيــة التغييــر عبــر الإقنــاع ورفضوا حمل السلاح.
فكرة الديمقراطية؟
ويقول شــاهينيان: «أنتمي إلى المدرســة الســلمية لا العنف، وعارضت دائما عسكرة الثــورة». وســيطر المنشــقون عــن جيــش النظام الســوري علــى المعارضة المســلحة، ومع مــرور الوقت حازوا دعم ناشــطين في مجــال الإســام السياســي، ســواء كانوا مــن المعتدلين مثــل الإخــوان المســلمين، أو الجماعات الجهادية المتشــددة. ومع إطلاق النار على المتظاهرين واعتقال ناشطين مثل شــاهينيان أو هروبهم للمنفــى، بات النزاع
أكثر عنفاً وتطرفاً. وتحول حس الاستقطاب إلى عنصر أساســي في السياســة العالمية، وليــس مــن المبالغــة القــول إن هذا بــدأ في ســوريا. وفي الوقت الذي غــذى فيه اليمين المتطرف واليسار المتطرف بعضهما البعض فــي الغرب، فقد حدث كل هــذا هناك، حيث بدأت تتكشف الثورة وبقوة لا تقاوم.
قتل وذبح
فقد انشــق تنظيم «الدولة» عــن القاعدة، وســيطر علــى الرقــة بحلــول 2014، وبــدأ بممارســة الأســاليب نفســها على السكان كتلــك التــي مارســها النظــام، واســتهدف الشــباب المعارضين الليبراليــن والمثاليين. وبالتأكيــد فقــد كان الجلاد الأكبــر أو مدير مخابــرات تنظيم «الدولة» في الرقة هو علي موســى الشــواخ )أبو لقمان( وبــدأ حياته كعنصر في شــرطة الأسد الســرية، قبل أن يتحول إلى التنظيم بعد معاناته من التعذيب في سجون الأسد.
وكان تنظيــم «الدولــة» قوة متمــردة من نوع ما، واســتهدف قوات النظام، وســجل عمليــات القتل والذبــح على الفيديــو. لكنه
ســيطر علــى معظــم أراضيه مــن المعارضة الســورية لا قــوات النظــام. وكان هــدف التنظيــم هــو زرع الخوف في قلــوب الغرب وليــس الإطاحــة بنظــام الأســد. وفي تحد للغــرب، قــام التنظيم بذبــح عمــال الإغاثة والصحافيــن ودعــم عمليــات إرهابية في الخارج، مما اســتدعى تدخــاً غربياً لردعه. وربمــا لم يكن هدف التنظيم إنشــاء خلافة، لكن تحريض المســلمين وغير المسلمين على بعضهــم البعض في الغرب الذي تعيش فيه كثافة سكانية مسلمة كبيرة.
وكانت أهــم لحظة في الحرب الســورية هــي الهجمــات الكيميائيــة علــى الغوطــة الشــرقية في ضواحــي العاصمة دمشــق، في آب/ أغســطس 2013. وهي المنطقة التي كانت تحت ســيطرة المعارضــة. وكردٍ على الهجمــات، صــوت البرلمــان البريطاني في اقتــراع غير مســبوق علــى عمل عســكري، حيــث عــارض زعيــم العمــال إد ميليبانــد القــرار الذي تقدم بــه رئيس الــوزراء ديفيد كاميرون، ودعا فيه إلى تشــريع اســتخدام القوة ضد النظام السوري.
وأنهــى البرلمان الاعتقاد الســائد عن دور الحكومــة بتحديــد السياســة الخارجيــة
وأرســل رســالة صادمــة لواشــنطن. وردّ الرئيــس الأمريكــي الســابق بــاراك أوباما بالتخلي عــن الحل العســكري بمفرده، مما سمح للنظام السوري باجتياز الخط الأحمر الــذي وضعه أوبامــا في حال اســتخدمت دمشــق الســاح الكيميائي. وترك ذلك أثراً كارثيــاً، حيث التزم الرئيــس دونالد ترامب الــذي تعهــد بالخــروج من حروب الشــرق الأوسط بشكل عام، بالحذر. وأصدر أوامر بضرب أهــداف للنظام مرتــن بعد هجمات بالســاح الكيميائــي نفذتها قوات الأســد. وكان تخلي أوباما عــن خطه الأحمر بمثابة فرصــة لروســيا كــي تســيطر على مســار الحرب.
تخلي أوباما عن خطه الأحمر
وجــاءت معظــم الأدلــة علــى اســتخدام الأســلحة الكيميائيــة مــن النظــام نفســه، فالمصــادر المفتوحــة ولقطــات الفيديو التي وضعها جنود النظــام على مواقع التواصل وصــور الصواريــخ التــي لا يســتخدمها ســوى النظام كانت وبشكل متناقض دليلاً علــى ارتكابــه جرائــم كيميائيــة. ولمواجهة
هــذا، بــدأ الإعلام الروســي بضــخ قصص متناقضة ونشــر نظريــات غريبة عــن قيام المعارضة بترتيب أعمال مسرحية للهجمات الكيميائية.
وولــد مصطلــح «الأخبــار الزائفــة» واستخدم كوســيلة في النقاش السياسي. وقــال إليوت هيغنــز الذي صنع اســمه من خــال فحص تســجيلات الفيديــو والتأكد من مصداقيتها منذ بداية الحرب الســورية: «أثــارت الحــرب الســورية الانتبــاه لأهمية محتويــات الفيديــو وكيفيــة اســتخدام المصادر المفتوحة للمحاسبة». ويدير هيغنز الآن «بيلينغــكات» وهــي مصــدر مفتــوح، وكان مــن بــن الأخبــار الحصريــة التــي حصلــوا عليها، تحديــد عامل الغاز الســام «نوفيتشــوك» الذي اســتخدم فــي محاولة اغتيال العميل المزدوج ســيرغي ســكريبال في مدينة ســالزبري البريطانية عام 2018. لكنــه تعرض لحملة نقد لاذعة على الإنترنت اتهمتــه بالعمالــة للدولــة البريطانية، وهي حملــة لعبت لاحقًا في دفــاع ترامب عن دور الــروس فــي الانتخابــات الأمـــريكية عــام .2016
«الدولة العميقة»
ووجد اليمين واليســار فــي الغرب راحة في نظرية المؤامرة عن «الدولة العميقة» التي تحاول تشويه سمعة روسيا وحلفائها، ولا تزال تســهم في النقاش ببريطانيا وأوروبا عامة. ويقول رامي إنه كان في وقت الهجوم الكيميائــي فــي الغوطــة، حيــث كان طالب القانون يــؤدي امتحانه الأخيــر في جامعة دمشق، وكان موضوع الامتحان عن المبادئ الدولية لحقوق الإنسان.
والمفارقــة أن رامــي مثــل عــدد كبيــر من الســوريين، لا يتطلع إلى الأمام أو ينظر إلى الوراء للاحتفال بالثورة، ويشعر بالذنب لو شــجبها، خاصة أن عدداً كبيــراً من زملائه الذين لم يحالفهم الحظ ماتوا وعذبوا. وفي الوقت نفسه يشعر بالذنب للاحتفال بثورة فشــلت ومات فيهــا الكثير من النــاس. ولا يعرف إن كان ســيعود إلى ســوريا أو كيف ســتكون الحياة فيها، فقد نجــا النظام لكن بثمن باهظ: فالبلد مقسم وهناك كانتونات تديرهــا تركيــا وهيئة تحرير الشــام، وآخر تابــع للأكراد في شــمال شــرقي ســوريا. وانتشــرت الميليشــيات وأمــراء الحرب في كل مكان من البلاد. وفي المناطق الخاضعة للنظام، انهار الاقتصاد وانتشرت الطوابير الطويلــة للحصــول علــى الخبــز حتــى في الأحياء التي كانت راقية في دمشق وحلب.