Al-Quds Al-Arabi

رسائل شهرزاد اليهودية عن بغداد الثلاثينيا­ت والأربعيني­ات: كنا نعيش في جنة عدن

- محمد تركي الربيعو * ٭ كاتب سوري

■ فــي نهاية عــام 1941 كانــت عائلة العراقــي اليهودي داوود شــماش قد قررت الرحيلَ عن البلاد، بعيد الهجمات التــي عرفتها بغــداد )حــوادث الفرهود( والتــي أدت لمقتل العشــرات من يهود المدينة. فــي البداية، كان قــرار الوجهة الجديــدة إلــى مومباي، التــي مثلت خيارا محمّــا بالفرص والمخاطر، ولذلك لن يطول المقام في الهند، إذ ستقرر العائلة الهجرة إلى فلسطين لفترة وجيزة، قبل أن تكمل طريقها إلى لندن للاستقرار فيها.

مع مــرور الســنوات، كان أولاد عائلة شــماش يكبرون، دون أن يعلموا شيئا عن تاريخ عائلتهم، أو عن تاريخ اليهود في بغداد، وهنا ستقرر فيوليت زوجة داوود أن تحمل على عاتقها نقل قصص الماضي وذاكرته إلى أبنائها وأحفادها. كانت فيوليت في الأســاس ابنة تاجــر عراقي يهودي، وقد عاشــت فتــرة طفولتها في بغــداد في عدة أحيــاء، في حي حنونــي اليهودي ولاحقا في منطقة الكرادة، التي كانت في العشــريني­ات، كما تذكر، عبارة عن مجموعة من المزارع التي تــزود المدينة بالفواكــه والخضروات. ورغم مــرور قرابة 4 عقود على مغادرتها العراق، بقيت صور بغداد العشرينيات والثلاثيني­ــات مســكونة في فــؤاد فيوليت. لكنها ســتنتظر أسئلة الأحفاد عن أصولهم، لتندفع نحو كتابة مجموعة من الرسائل لابنتها في فرنسا على مدى عشرين سنة، ولتقوم لاحقا هذه الابنــة برفقة زوجها بجمعهــا وإعادة تحريرها، ومــن ثــم نشــرها بالإنكليزي­ة في عــام 2008 تحــت عنوان «ذكريات جنة عدن: رحلــة في حياة يهود بغداد» وذلك بعد عامين من رحيل فيوليت الأم عن حياتنا.

فــي هذا النص، حاولــت فيوليت العودة بنا إلى شــوارع بغــداد الطفولة، لتحدثنا عن يوميات الجنة التي عرفتها هي وغالبيــة يهود المدينة آنــذاك؛ فخلافا لصورة بغــداد المثقلة اليــوم بهمومهــا وبروائح البــارود والدم، تكشــف لنا هذه العراقية الأصيلة عن صورة أخرى لبغداد، دافئة، ومتنوعة، ومتســامحة مع الآخر وثقافته، وتعــج بالحياة والطقوس؛ ولعل الجميل في هذا النــص أيضاً، أن فيوليت تبدو أحياناً وكأنهــا تقــرأ من كتاب شــهرزاد القــديم، وربمــا يعود هذا التأثر لمئات القصص التي ســمعتها من جدتها، أو يخيل لنا أنّ نص شــهرزاد بقي المرافق لها طوال ســنوات الغربة عن وطنهــا، وهذا ما أتاح لنا الاســتماع إلى قصص أهل بغداد، وأبطالهــم، وحياة بعض لصوصهــم، وأيضا أنواع الطعام؛

كما أن شهرزادنا الجديدة، ســتبقى تحوم في قصصها حول شوارع المدينة، لنكتشــف معهــا قصــة أخــرى لتطــور شــارع الرشــيد في العشــريني­ات والثلاثيني­ــات، وأيضــاً حكاية حــي الكرادة، الذي غــدا لاحقا من الأحياء الشــهيرة. ولعل هــذا الاهتمام اليومــي، جعل نــص فيوليــت، أكثر قربــا ودفئا مــن حياة الناس، ولذلك لن يشــعر شــهريار )القارئ( وهو يســير مع شــهرزاد اليهودية، بأي ملل، أو رغبة بقتل حكاياها لصالح عشرات النصوص والروايات الأخرى، وإنما سيبقى مولعاً ومحتارا في قدرة هذه الســيدة علــى كتابة نص أثنوغرافي فريد عن هذه المدينة.

كانت فيوليت وهي تخطّ رســائلها، تحلــم بالعودة يوما ما إلى بيــت أهلها، لكنها غادرت، ليبقى نصها شــاهدا على ذاكــرة مدينة بأكملها عــن فترة ما. بيــد أنّ المترجم العراقي علي شاكر، ســيتمكن من تحقيق رغبتها بالعودة ولو رمزيا إلــى عالمهــا البغــدادي عبــر ترجمة نصهــا مؤخــرا بعنوان «رسائل فيوليت» بلغة لم تخل من عشرات الكلمات العراقية العامية، لنكتشــف من خلال هذه الترجمة، أن لكل عصر في بغداد شــهرزادها، وأن ســر هذه الســاردة، بقي ينتقل بين بنات بغداد وأهلها من جيل لآخر.

تبــدأ حكايــة فيوليــت مــن عــام 1912 فهــي وخلافــا للتواريخ الرســمية، لا تحتفظ بيوم ولادتهــا، وإنما قيل لها بأنهــا ولدت في اليوم نفســه الــذي يحتفل بــه اليهود بعيد «الهانــوكا» وهو تأريخ للأحداث لا يعــدّ غريبا، وإنما اتبعته معظــم مجتمعات ما قبل الحداثــة، التي عادة ما كانت تؤرخ لأحداثها ويومياتها من خلال المواسم الدينية أو الموسمية. كان منزلهــم قد بنــي في بدايات القرن العشــرين، وأكثر ما علــق بذهنها عنه، غياب النوافذ المطلــة على الخارج، فكانت الجدران المبنية بالآجر كل ما يطالع الســائرين في الشوارع الضيقة. ولعل في ذكرياتها ما يتوافق مع ذكريات المعماري العراقــي الراحل رفعت الجادرجي عن منزل جده عارف آغا في شارع الرشــيد، إذ يؤكد أنّ الشكل الأولي للمنزل، الذي بني في النصف الثاني من القرن التاســع عشر، لم تكن فيه أي نوافذ تطلّ على الشــارع، لكن ذلك سيتغير مع بناء منزل جديد لزوجة جده التركية خاتون هانم خلال الحرب العالمية الأولى، الذي كانت فيــه نوافذ للخارج. ومما تذكره فيوليت عن حي حنوني اليهودي الذي عاشــت فيه، أنّ الأزقة كانت قذرة وتفتقر إلى الجاذبية، وكانت تشكل مع بعضها بعضا متاهة يســهل على المــرء أن يضــل طريقه فيهــا، ويحاذيها

الكثيــر مــن الباعة، وكان واردا أن يحشــر حلاق نفســه وعدته في ركن ضيــق بــدون أن يكون لــه محل، ثــم يقوم بعــرض خدماته المختلفــة للزبائــن مــن قــص شــعر وخلــع الأســنان وفقع

الدمامل. قرر والدهــا بناء منزل جديد فــي الكرادة، و هو ما سيمكننا من خلال ذاكرتها من التعرف على هذا المكان في العشرينيات. تذكر فيوليت أنّ الانتقال شكل نقطة تحول فــي حيــاة العائلة، إذ كان عليهــم التأقلم مــع منطقة زراعية بحتة، حيث لا أســوار أو أســيجة تحيط بالممتلكات وترسم حدودا لها، وهــذا ما جعلهم عرضة للســرقات المتكررة. مع ذلــك تقول فيوليت عن تلك الأيام «كنــا نحيا في جنة عدن.» ســتكمل حديثهــا عــن بغــداد الطفولــة، لتلتقط لنــا صورا أخــرى من الذاكرة عن زي النســاء العراقيــا­ت بعيد الحرب العالمية الأولى. إذ تؤكد أنّ الســيدات اليهوديات كنَّ يرتدين الألبســة ذاتها التي ارتدتها المسلمات حتى ثلاثينيات القرن العشــرين، كالجلاليــ­ب الطويلــة والفســاتي­ن ذات التنانير الفضفاضة والســراوي­ل، ومن القصص الطريفة أيضاً التي تذكرهــا هنــا، أنّ قــص الفتيات لشــعرهن لــم يكن مقبولا قبل الثلاثينيا­ت، فشعر البنت كان بمثابة تاج لعزتهــا، وحدث التحوّل، كما تذكــر فيوليت، عندما افتتح في هــذه الفترة أول صالون تصفيف للشــعر فــي بغــداد، الذي شــهد إقبــالا كثيفا، وهذا مــا عدّه الكبار خرقا للأعراف الســائدة، فراجت أغنية تصوّر استنكارهم للأمر مطلعها «بنت البيت قصت شعرها» كمــا تذكر أنّ الرجــال في بغداد ظلــوا حريصين على الالتزام بالزي العثماني في هذه الفترة. فــي الثلاثينيـ­ـات، أخذت الحافــات تمرّ مــن أمام منزلهم في الكرادة، فصاروا يســتقلونه­ا للذهاب إلى المدرســة بعــد النــزول في المحطــة الأخيرة من شــارع الرشــيد. وهنا تصف لنا الطالبة فيوليت شارع الرشيد كمــا عرفته، فقد كان يتســع لمرور ثــاث عربات تجرها الخيول، لكنــه لم يكن معبدا، فكان الغبار يغطي جنباته فــي الصيــف، وتملؤه الأوحــال فــي الشــتاء، وكانت الأبنيــة على جانبي الشــارع ســكنية بارتفــاع طابقين، قبل أن يشــرع مالكــو العقارات بتحويل غــرف الطوابق الأرضيــة إلى محــال تجارية بــدون أن تكون لهــا واجهات عــرض زجاجيــة. وعلــى جوانبه تعثــر على بعض النســاء وبجوارهــن قدر كبير مليء باللوبياء المســلوقة للبيع، بينما كان هناك رجال يســلقون عظام الخروف وأحشاءه، وكان أكثــر الباعة جذبا هو «أبو العمبــة» الذي كان يصنع «لفات» )ســندويش( مكونة مــن الخبز الملفوف وفــي داخله مخلل المانجو المتبل.

مقهى موشي

ســتروي لنــا فيوليت عــن مقهى موشــي، من خــال ما رواه لهــا والدها عن هذا المكان. فقــد كانت القهوة في زمنها الوســيلة المتعارف عليها لنقل الأخبــار العائلية والمجتمعية أيضــا، وكان رجال الأعمال المســلمين واليهود يُشــاهدون جالســن جنبــا إلــى جنــب وهــم يرتــدون العبــاءات فوق ثيابهــم، وقلة فقــط كانت ترتــدي البدل الأوروبيــ­ة، وكان الجميع حريصين على تغطية رؤوسهم بالعمائم أو بالشماغ )العقال(. كما أن شــهرزادنا غالبا ما كانت تســترق السمع لحكايــا زوار والدهــا فــي منزلهــم، ومنها قصة الشــيطان الــذي يخرج على هيئة حصان لتاجر، فجنّ الرجل وُأخِذ إلى مشــفى المجانين في بغداد، وهي روايات تبــدو في حبكتها ومصادرها مقبلة من قصــص ألف ليلة وليلة، التي تناقلتها الذاكرة الشــعبية العراقية وأعادت روايتها والتعديل عليها على مرّ الأزمنة.

بعــد زواجها مــن داوود شــماش، الذي عمــل بالتجارة، وعرف بعزفه على العــود وتأدية أغاني محمد عبد الوهاب، بقــي اليهود يعيشــون فــي ظروف جيــدة، ولا تخفــي أنها وأهلها كانــوا يرون أن وجــود البريطانيي­ن يشــكل ضمانة لوجودهــم، ويبــدون ســعادة عارمة كلمــا ذكر اســم الملك فيصل أمامهم، فقد «كان حاكما عطوفا.»

وخــال هــذه الفترة أيضا، ظهرت الســينما فــي بغداد، ممــا ترك أثرا بالغاً في حياة الشــباب، الذين أخذوا يقلدون نجومها ويصففون شــعرهم ويدهنونه بالبريانتي­ن )الملمع/ الجل(.

طعام أعياد اليهود:

تظهــر لنا رســائل فيوليت عن طقوس اليهــود وأعيادهم في بغداد، أنه لم يكن هنــاك ما يعكر صفو هذه الاحتفالات. ومما تذكره عن تلك الأيام أنّ والدها كان يجلب «الشكرجي» )صانع الحلوى( إلى المنزل، ليمضي ليلتين في إعداد اللوزية وبســكويت «أبو قدراسي» أي بســكويت السماء. وربما من أجمل الصور عن تلك الفترة، هي الصورة التي تنقلها لنا عن غداء العيد ودلالات الطعام الدينية في هذه المناسبة، إذ تبدأ الوليمة بشكر الله على ما جاد به من نعم، ثم يتناولون مربى التفاح لتكون ســنتهم الجديدة المقبلة حلوة المذاق كالعسل، يلي ذلك أكل الرمان ليكون عامهم زاخراً بالأعمال الصالحة، كما يزخر ثمــر الرمان بالحبوب، ومن ثــم يتناولون البصل كي تكون الســنة مرة على أعدائهــم، وأخيراً كان يحين وقت تقــديم رأس الخــروف المطبــوخ مع المــرق، فيدعــون الله أن يجعلهم دائما في رأس مساعيهم، لا في ذيلها.

الأربعينيا­ت.. هجرة جنة عدن

بقيت صــورة جنة عدن طاغية على ذكريــات فيوليت عن بغــداد خــال العشــريني­ات والثلاثيني­ــات، لكن مــع قدوم الأربعينيـ­ـات كان المشــهد يتغيــر، إذ تقدم لنا هذه الســيدة العراقية ســردية أخرى هنا، حول أسباب هجرة اليهود في هــذه الفترة، فهي برأيها لم تكــن طوعية، بل نجمت بالدرجة الأولى عن تطور الأحداث في العراق بعيد الأربعينيا­ت، وأنه لــولا هذه الأحداث لما هاجر القســم الأكبر من اليهود وبقيوا عراقيين.

كان فيصــل الثانــي طفلا فــي الرابعة من العمــر، عندما انتقل الحكم إليه بعــد مقتل والده الملك غازي في عام 1939، فعيِّن خاله، الأمير عبد الله، المعروف بولائه لبريطانيا برتبة وصي، لكن ما سيعكر صفو وجودهم، كما تروي، هو قدوم مفتــي القدس العــام الحاج أمين الحســيني الــذي لجأ إلى العراق. ومع انــدلاع الحرب العالمية الثانية أخذ قســم كبير مــن اليهود العراقيين يعودون إلى بغــداد، وقد ترافقت هذه العــودة أيضا مع وصول عدوى المعــارك في أوروبا من قبل الســفارة الألمانية وقيــام المفتي بتصعيد نبــرة هجومه على البريطانيـ­ـن وتحريضــه ضد اليهــود، ومما تذكــره هنا أن البغداديين المســلمين بدوا متعاطفين مــع هتلر، ما أخذ يؤثر في علاقتهم بهــم، فأخذت بعض أحاســيس الكراهية تحلّ محــلّ الود والوئام، ومــع حلول 1941 اندلع انقلاب رشــيد عالــي الكيلاني الذي كان معروفا بموالاتــه للنازية، وافتتح عهــده بإلغاء معاهدة مــع بريطانيا، لكن بعد شــهر من ذلك فشــل الانقــاب وهــرب الكيلاني خــارج البــاد، وفي ذلك اليوم، وبينما كان جنوده يشــعرون بخيبة الأمل مما حدث، شــاءت الصدف أن تترافق هذه المشاعر، كما تذكر فيوليت، مــع احتفــالات اليهــود بأحد أعيادهــم، فمــا كان من هؤلاء الجنود إلا أن فسّــروها بوصفها احتفالا بهزيمتهم، فوقعت علــى أثرها ما عــرف بحادثــة الفرهود، عندما قام عســاكر وعوام مــن المدينة بمهاجمة اليهود، وهنا تروي لنا تفاصيل ما حدث لحظة بلحظة، وكيف كانوا يهربون من منزل لآخر، وقتل حارس منزلهم الكردي، إلى أن قام جيرانهم المسلمون بحمايتهم، ومما تذكره أيضا عــن هذه الأحداث، أنه رغم أن المســلمين قادوا هذه الهجمــات، لكن في المقابــل كان هناك مســلمون آخرون دافعوا عن وجودهم، وشكّلوا مجموعات للدفاع عن يهود المدينة.

بعــد هذه الحادثة، بدا أنّ العســكر لــن يتوانوا عن تكرار فعلتهم، وهذا ما حدث بعد ذلك بســنوات مع تكرار الضغط على اليهود بعيد عــام 1948، ما دفعهم لاحقا لمغادرة العراق إلى أوروبا وأمريكا وفلســطين. وربما ما يكشفه هذا السرد لآخــر أيام اليهــود في بغــداد، أنهم بقوا وحتــى آخر لحظة يفضلــون البقــاء علــى الرحيل، وأنّ سياســات الــدول في العراق وســوريا أيضاً كانت ســببا في هجــرة أعداد كبيرة منهــم بعد أن شــعروا بالتهميــش والتخوين، كلمــا توترت الأمــور. ولعل ما يدعم هذا الاســتنتا­ج، مــا تبوح به فيوليت في رســائلها الأخيرة من مشــاعر اللجوء والشعور بالغربة بعيــدا عــن وطنها العراق، كمــا أنها لا تصوّر هجــرة اليهود العراقيــن لفلســطين بوصفه حلما، بــل كانت أيامــا مليئة بالمــرارة والشــعور بالغربة المســتمرة، إذ أدركــوا أن الجنة بالنســبة لهم لم تكن هي أرض الميعاد في فلســطين، بل هي بغداد وقصصها وتفاصيلها اليومية.

 ??  ?? محل نَحاس في أحد شوارع مدينة بغداد عام 1932
محل نَحاس في أحد شوارع مدينة بغداد عام 1932
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom