Al-Quds Al-Arabi

سليم بركات: اللعب حين نستطيع

- سليم بركات

بيتر غيرنوي (1( مكيال أرسطو في الحكاية المرصودة لمقامات الدَّهاء أنَّ الثعلبَ احتالَ لنفسه على الكُركيِّ، فدعاه إلى غداءٍ نِصابُهُ الحقُّ فخرُ الكَرَم بالكرم. ابتدعَ حساءً ليس في مَسْردِ المرويِّ مِمَّ صُنِع، وعلى أية نارٍ أنضِج. لكنه غداءٌ يليق بالحكاية مختزَلَةً إلــى صحنين ضحليْنِ، على مـائـدةٍ حولها كرسيان اجْتلَسهما الضيفُ والمضيف.

سكب الثعلب في الصحنين بلا عمق حساءَ الوليمة. وَلَغَ في صحنه بلسانه حَسْواً، مثبتاً عينيه الساخرتين على ضيفه الطير المتحيِّر ينقر الصحنَ فلا يخرج بغرْفٍ من الحساء.

انتهت الوليمة. خرج الكركيُّ سكرانَ جوعاً من الغداءِ حُسِبَ عليه دَيناً، فأوفى بالدَّين. أوْلَـمَ للثعلب على حساءٍ سكبه في قارورتين عميقتي الغورين، ضيِّقتيِّ العنقين. غَرَف من الـقـارورة حساءَه حتى ثفْلِ قاعها، بعينين ساخرتين على ضيفه المتحيِّر مخذولاً لا يطاولُ بلسانه الحساءَ من عنق الـقـارورة الطويل الضيق.

خُدعةٌ بخدعة. حكايةٌ من حِـذْقِ الأحابيل دسَّها الإنسانُ في جيب الحيوان، لكنها مفرطة في تفاهة خيالها إن أُدرجتْ في رقابة المنطق: من أين اشترى الثعلبُ الصحنين، ومن أيِّ متحفٍ للزجاج استعار الكركيُّ قارورتيه؟ كان ينبغي تصحيحُ خلل «الذكاء» في الحكاية على النحو التالي: كلاهما مخادعان، ذكيان، داهيتان. الكركيُّ ـ على غداء الثعلب ـ يستحدث ثغرة في الأرض بمنقاره القوي. يحمل الصحن بيديه اللتين استحدثهما خيالُ الإنسان. يدلق الحساءَ في النُّقرةِ الحُـفـرة، ثم يغرف منه حَسْواً.

مقابل هــذا الَمــخْــرج تصحيحاً لعجرفةِ النقصان في خيال الـراويـة، يعمد الثعلب، حين يُدعى إلى مأدبة الكركي، إلى حفْر جورة بمخالبه يدلق فيها القارورة، ثم يَلِغُ في الحساء شارباً.

أهذا مَخْرجُ المقالة هذه تقديماً في سياقٍ فلسفي، أو قريب من الفلسفة يماسُّها أو يكاد؟ حين لا تستطيع فلسفةٌ اجتيازَ مأزقها، تُحيلُ المـأزقَ إلى خطابٍ مُشْكلٍ في تصنيف الخصائص النظرية للفكر، أمَّـا الخصائص العملية فمقامُها مقامُ المخلوقات في أسمائها: «هي وجودٌ متَّصِفٌ بما ليس فيه».

ثمَّت انــزلاقٌ هنا إلى عدميةٍ من مشاعية (2( تناظرُ العالَميْنِ الخطأُ كان ـ أبداً ـ نظاماً للحقيقة. تتبَّعتُ ذلك مع لويجي برانديللو في المسرح: ممثلون يبحثون عن مُخرج. هَدْمُ الجدار الرابع. النزوح بالممثلين والمشاهدين إلى الطريق خارج مبنى الـعُـروض. انزياحٌ بالمعاني إلى تشويقٍ من نوع آخر يغدو فيه المكانُ ممثِّلاً ذا دورٍ عاصفٍ في الإلقاء، يصغي إليه الممثلون، والُمخرجُ، والحــضــو­رُ، وينحني له النصُّ مصفِّقاً من «خشبة المسرح» الذي غادره الجميع.

من تداعيات برانديللو في تأثيث «الشكل» المتلاعب بفِقه الأبعاد، التي تُخضِع المسرحية لشروط المكان الثابت، أن تصل الموجةُ إلى مـخـرج السينما البريطاني بيتر غرينوي )صــاحــب فيلم «الــطــاهـ­ـي. الــلــص. زوجته وعشيقها»، و «كتاب الوسادة»،) الذي أحالَ الفضاءَ الشاسع ـ فضاءَ السينما وألاعيبها السحرية من المؤثرات الخاصة، إلى حصْرٍ بجدران المكان. عبوره عبورٌ إلـى السينما ـ المسرح، بالرغبة في عودةٍ إلى منشَأِ العروض الأصول ابتكره عالَمٌ قديم في الترفيه: تمثيلٌ بسيطٌ على خشبة، في مقابل عالم جديد، مذهلِ القدرات بألاعيب آلاته. غير أن الجامع بين العالَميْن هو الُمشاهدُ واقفاً، أو جالساً، أمام المعروض عليه: خشبة العالم القديم، وشاشة العالم الجديد.

مِـنَ الُمرتكز البدهيِّ لعالَم الـعـروض، أيْ وجـود الُمشاهد، يتلاعب غرينوي بالأبعاد. يضيِّق عليها ممكنات الشساعةِ، والوَسْع، والعمق. «يعتقل» الكاميرا في جـدران، وهي القادرة في «الفن السابع» على جموحٍ يقلب أعالي المنظورات إلى أسافل، بجنون التِّقانة في الربط والضبط.

سينما ضيِّقةُ المساحة في مسرحٍ ذي جدران ضيقة. غرينوي لا يرى في ذلك انتقاصاً من القدرات. جَانْغْ ييمو الصيني لن يوافقه على ذلك. يضيف إلى أبعاد المكان أبعاداً كاقتدار المرايا على التوسعة إن تناظرت. فيلمه «بطل» (2002( ـ الذي لا تفلت فيه برهةٌ من تَرَاتبها نحْتاً مضبوطاً بقياسٍ شِعريٍّ في التصويرِ النحت ـ إعصارٌ فنيٌّ لن يلحق به وصف. كلُّ لحظةٍ قصيدةٌ من الرسم.

أدخل ييمو «الفنَّ السابع» مدخلاً هو نَسَبُ الفن حقاًّ إلى الفن. رفيقه في المهنة، الأمريكي المقتدر تـرانـس مَـلِـك )أصــل اسـمـه(، وازاه من منحىً آخر نقلاً للسينما إلى فنِّيةٍ فوق الشبهات، وولاءٍ للفن يعيد إلى تسمية «الفن السابع» ثقتَه باسمه. فيلمه «شجرة الحياة» (2011( منعطفٌ )لا أوافقُه غيبيةَ التساؤلات فيه( فاتنٌ من الاستحواذ بالنصِّ المتقطع كأنه ارتجــالٌ تصويري، لكنْ بروابط من مَشاهد الكون الساحر.

لن يستطيع أحدٌ إغفالَ الصرحَ السينمائي الآخر، المكين في فنه، ستانلي كوبريك. كل فيلم له قويٌّ. لكن ينبغي التوقف عند فيلمه «باري ليندون» (1975(. هنا هو، مثل صنوه الصيني ييمو، لا يدع مشهداً واحــداً من غير إخضاعٍ للرسم. كل مشهد لوحةٌ كرسوم رامبرانت: الظلالُ نبوغٌ مما تستحصله الظلالُ لنفسها من مقامٍ في الرسومِ الرِّفْعة، والأنوارُ شرائعُ مُحكمةُ النصوص في تدبيرِ إدارةِ العُمرانِ النورانيِّ. (3( الفكر بين كوازيمودو وغرامشي أعدتُ قراءةَ «أحدب نوتردام» تسع مرات، أو أكثر، وأنا في الخامسة عشرة من عمري. كانت كلُّ قراءةٍ أن أصل إلى السطور الأواخر من روايــة فيكتور هوغو. لمـاذا لم أوفـر على نفسي، بعد القراءة الأولى، أن أمضي مباشرة في تقليب الصفحات إلى آخر صفحة فيها؟ أمرٌ ينبغي عرضُه على تحليلٍ من مقتَبسات «اللوعة»: لقد عُثر في قبر الغجرية أزميرالدا على هيكلٍ عظمي محدَّب، منطوياً على نفسه إلى جوار هيكلها.

هيبةُ القبر بهيكلين عظميين استوقد شيئاً فـيَّ. حـزنٌ مَّا لم ترمِّمه الـقـراءاتُ المتواصلة للرواية، ظـلَّ يميل بخيالي، محزوناً، إلى التوسل إلى كوازيمودو كيف دفنَ نفسه في قبر أزميرالدا؟

لم أكن لأعثر على جواب، وأنا أعيد قراءة الرواية. حملتُ ذلك معي في «أعمارٍ كُثر» من أعماري الأوائل، حتى الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تردَّد اسم أنتونيو غرامشي في توثيق أحــوالِ الصراع على مبادئ الفهم النظريِّ لطلقات الحرب وصواريخها.

«المثقف العضوي»، أيْ المترابط بعموده الفقري مع باقي اللحم من جسده ـ أجساد الآخرين. ربطٌ للمثقف بزئبقيةِ قِيَمِ العامَّة، التي لن يمكن حصرُها بتصنيفٍ كالتصنيف «المترجرج» للطبقات ووعيها. ما لَفتني إلى غرامشي، عدا ثقافته الواسعة، وما قرَّبه إلى الفرع المتشعب من شجرة خياليَ، ذلك التوافق «العضوي» بين الحََـدبـة في ظهره والحدبة

أنتونيو غرامشي

في ظهر كـوازيمـود­و كاتدرائية نوتردام.

«لاهـــوتُ الــوجــود» ـ جملة لجــاك دريــدا، يعجبني أن أميل بها إلى الُمطابَقات بين الخلائق. أنا هنا في الموضع من «موت الكاتب» وولادة القارئ الذي هو أنا، بحسب اللاهوتية الُمحدثة من غراميات التفكيكية، ولوعة البنيويين في اشتغالهم على استيلاد تراكيبَ بلاغية، أدبية. جسد كـوازيمـود­و «مفكَّك». جسد غرامشي «مفكك». عاشا مفكَّكين من تلاعب الشكل بهما بإضافاتٍ «عضوية» إلى ظهريهما قوَّضتْ نسبةً من «لاهوت وجودهما».

لا أنحو قـطُّ أن أكـون ناقدَ «أشـكـال» في علمها «المقارن»، مذ أعرف أن «الناقد لا يقول فقط ما يقوله النصُّ، بل يقولُ أيضاً ما لا يعنيه هو نفسه» (بول دي مان(. أدبٌ وفكر «أعني رواية هوغو، وأعمال غرامشي» جمعاني على نقدٍ «عاطفيٍّ» لا تحليل فيه؛ لا تثبيت للمعاني بنفيها؛ لا نفيَ للمعاني بتثبيتها. حزنٌ مَّا عشتُه إلى جوارهما. «حزنٌ عضويٌّ» إلى جوار كل جَرَسٍ في كاتدرائيات الأرض.

ـ بهلوان الأجــراس في (4( تاريخيةُ الحقيقة «التعاقدية» يشير العنوان إلـى منظومة من المفاهيم أخـذَهـا السجالُ كــلَّ مـأخـذٍ، وأدارهـــا على تشابهات «الَمصَالح» وتحالُفاتها، احتكاراً للسُّلطة فكراً )وهـو ما يجهد كـلُّ نظام إلى فرضه(، واحتكاراً للسلطة بإدارةٍ قوامُها قوةٌ عسكرية.

لستُ فـي معرض المــقــول­ات «الـصـارمـة» لصراع الجماعات على السيادة. لقد كلَّفتُ نفسي ببعض التحريف الطريف رِفْقاً بالتجريد الـنـظـريِّ، الـــذي لا أعـــرف أأبــــدأه بسُقراط

جاك دريدا الذي هو مَدِينٌ بديكٍ لإله الطبِّ أسكليبوس، أمْ بالرياضيات التي هي التماهي الكوني المطلق للعقل )هُـوْبـزْ يختصر الأمــرَ: حقيقةُ البشر ومصلحتهم لا تدخلان في تعارُضٍ مع مباحث الرياضيات(، أمْ الرياضيات التي هي «هدنةٌ» لا غير، بسياقٍ من اختلالٍ في حساب «الَمصالح» على اقتسام العقل بنِسَبٍ مفرطة في تبايُنِ الحجوم؛ أم أبدأ من تجريد التاريخ من لاهوتيته )كما فعل مونتسكيو(، أمْ من «أصل الأشياء الجذريِّ» للايبنتز؛ أمْ من صيغةٍ مَّا للمجتمع واجبةِ القبول، قبل العَقْد نظاماً؛ أم من المساواة في الظلالِ لا في الحجومِ؛ أمْ من النزوع الفوضوي إلى أخلاقٍ لا جوابَ عندها على أسئلة الإيمــانِ بالشكِّ؛ أمْ من المثاليات الشفهية؛ أمْ من التجريد المستعصي على خيال الكلمات؛ أمْ من نقْض الديني للتاريخ كله السابق عليه زمنياًّ؛ أمْ من المدنيَّة في جروحها؛ أمْ مــن الـبـحـث عــن قــوانــن للموضوعات المشاكسة؛ أمْ من طبقات الملائكة مصنَّفيْنَ على مهماتٍ؛ أمْ من تفاحات الأقدار كلِّها ـ سقوطٌ أبداً إلى أسفلَ؛ أمْ من الخطأ كحقيقةٍ يتجنبُ الصوابُ العبورَ بها؛ أمْ من سلوكِ الإنسان كسلوك الطبيعة: يُخضعان قوانينَهما للضلالِ، وللخَرْق، وللانتهاك؛ أمْ من العالَم في حدَّيهِ: البنيان والتقوُّض؛ أمْ من الحياة التي لا نملك منها إلاَّ القليل، لكننا نملك الموتَ بتمامه؛ أمْ من إرادة الموحش؛ أمْ من الانجذاب إلى كينونتين على هربٍ في اتجاهين؛ أمْ من الكون، والزمن، وأكـافِ المـأزق في بنية المصطلحات؛ أمْ من «المحمولات الصالحة لكلِّ وجودٍ»؛ أمْ من الزمن كمُتَخيَّلٍ للذات؛ أمْ من إقامة الحدود بالقياسِ إلى الأعمار الفَلَكية؛ أمْ ؟؟؟؟؟ آذار 2021

 ??  ??
 ??  ?? الرمزيات: الفكرُ العملي وجـودٌ متَّصفٌ بما يكونه، وما هو عليه، ليس كالكائنات الأُخر يتخيَّرون لها أسماءً لا تكون ماهيَّاتِها. كلُّ البشر ربما لا يتماهون مع أسمائهم.
ربمــا الـــروحُ، بمكيال أرسـطـو للتعريف، هي ـ بتحديدٍ صــارمٍ، ومتعسِّفٍ أيضاً ـ كلُّ كائن. واليقين الذي «أتنعَّم» به، من استذكار الثعلب والكركيِّ في ماهيتين إنسانيتين، هو أن الفلسفة «ميثاقُ» الأقــوال المستندة إلى ثغراتٍ في المنطق. وها أرى، في ختام هذه السرديَّة، أن الكركيَّ يشعل لِفافة تبغ متنعِّماً باستنشاقها، فيما يستذكرُ الثعلبُ شيئاً من فلسفة أبيكوروس.
الرمزيات: الفكرُ العملي وجـودٌ متَّصفٌ بما يكونه، وما هو عليه، ليس كالكائنات الأُخر يتخيَّرون لها أسماءً لا تكون ماهيَّاتِها. كلُّ البشر ربما لا يتماهون مع أسمائهم. ربمــا الـــروحُ، بمكيال أرسـطـو للتعريف، هي ـ بتحديدٍ صــارمٍ، ومتعسِّفٍ أيضاً ـ كلُّ كائن. واليقين الذي «أتنعَّم» به، من استذكار الثعلب والكركيِّ في ماهيتين إنسانيتين، هو أن الفلسفة «ميثاقُ» الأقــوال المستندة إلى ثغراتٍ في المنطق. وها أرى، في ختام هذه السرديَّة، أن الكركيَّ يشعل لِفافة تبغ متنعِّماً باستنشاقها، فيما يستذكرُ الثعلبُ شيئاً من فلسفة أبيكوروس.
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom