Al-Quds Al-Arabi

الجيش والسياسة في جزائر الحراك

- * كاتب جزائري

حتــى لا نكــذب علــى أنفســنا وعلى النــاس، لابد من الاعتراف فــي البداية، بأن الجيش في الجزائر ما زال يســيطر على صناعة اتخاذ القرار الاســترات­يجي، عندما يتعلق الأمر بالمجال السياســي تحديدا، حتى لو تــرك إخراجه والإعلان عنــه للواجهة المدنية، التــي تتحمل في الغالــب نتائج القرار بحلوه ومرّه.

وضــع لا ينطبق علــى الفتــرة الحالية، ولكن منــذ ما قبل اســتقلال الجزائر، التي تم فيها الإعــان عن تكوين الجيش 1954 قبل اســتقلال الدولــة 1962. ســيطرة تفرضها قيادة الجيش بواســطة واجهة مدنية تغيرها عند الضرورة، لتبقى هذه الســيطرة العســكرية حاضرة، ما يزيد في تعقيد عملية التغيير السياســي وصعوباتها في كل مرة. قيادة عسكرية يمكن أن تتغير على مســتوى الأشــخاص، لكنها تبقى تملك العلاقة نفســها مــع واجهتها المدنية، التــي تختارها كل مرة لتمثيل الســلطة، حتــى وهي تدعي عكس ذلــك، كما يحصل

هذه الأيــام مع الرئيس تبــون. قيادة عســكرية قطعت لأول مــرة في تاريــخ الجزائر، مــع الشــرعية الثورية، منــذ وفاة الرئيس الســابق لقيادة الأركان قايــد صالح، الذي كان آخر قائد أركان من أبناء جيش التحرير، من المشــاركي­ن في ثورة التحرير، ما يمكن أن يكون نقطة تحول مهمة، على المســتوى الرمزي على الأقل، في علاقة السياســي بالعســكري، لو تم اســتغلاله­ا فــي الاتجاه الصحيــح، كما يطالب به الشــعب، منــذ بداية الحراك، الذي ما زال ينــادي بدولة مدنية ترفض القبول بها القيادة العســكرية وتستهجنها، وصلت إلى حد تخويــن المطالبين بها، رغــم أن تاريخ البلد يؤكــد لمن يريد أن يكون منصفا، أن الجزائر لم تعرف إلا رئيســا واحدا جسّــد فــي شــخصه القيادتــن العســكرية والمدنيــة هــو الرئيس بومدين ‪-78. 1965‬ما عداه من رؤســاء كانوا واجهة مدنية، تم التخلــص منهــم عندمــا اقتضت الأحــوال ذلــك، بفرض الاستقالة أو الإبعاد بشتى الطرق، كما كان الحال مع بن بلة والشاذلي بن جديد وبوتفليقة، الخ.

قيادة عســكرية مسّــها ما مسّ النظام السياسي ككل من ابتعاد سياســي - نفســي عن المواطن وفســاد، كمــا بينته المحاكمــا­ت التي تمــت لبعض الوجــوه العســكرية المعروفة بعــد انطــاق الحراك، مــا يزيد فــي قناعة المواطنــن بطرح قضية العلاقة بين السياســي والعسكري في الجزائر كأحد المفاتيح المهمة للإصلاح السياســي الذي ينــادي به المواطن الجزائــري، منذ انطــاق الحــراك. للتخلص من هــذا الإرث التاريخي السياســي الــذي يبقى من مصلحتنــا كجزائريين أن نتوافق حوله وننجزه بأعلى درجات الجدية، حتى نجنب بلدنــا ويلات الانقســام­ات والأهــوال التــي عرفتها تجارب أخــرى مشــابهة للحالــة الجزائريــ­ة فــي علاقة العســكري بالسياسي.

اعتمادا على ما يمنحه المواطن نفســه، من شــرعية كبيرة للمؤسسة العسكرية، حسب أغلبية استطلاعات الرأي، التي حاولت قياس موقف الجزائري من هذه المؤسســة المركزية للدولــة الوطنية، التــي عرفت تحولات نوعيــة كثيرة، كجزء

مــن التحولات التي عاشــها المجتمع الجزائــري، مثل ارتفاع مســتوى التعليم والتأهيــل، والتشــبيب والتأنيث، والطابع الوطني والشــعبي، جعلنــي أكتب أكثر من مــرة أن الجيش كمؤسسة، عكســت أحسن من المؤسسات المدنية، على غرار الحزب السياسي، التحولات التي عاشها المجتمع الجزائري، كانتشــار التعليم على ســبيل المثــال. ما يســهل موضوعيا القبــول بمطالب الحــراك التي تنــادي بمدنية الدولــة، التي ما زالت تعاديها القيادة العســكرية حتــى الآن، كما يعاديها السياسي الرسمي الذي يكرر خطابها، تماما كما كان الحال مع مطلب الانتقال السياســي، الذي شــيطنته هــذه الثقافة السياســية، رغم أنها مطالب تســير في الاتجــاه الصحيح، الذي يعيشــه العالم والجزائر، كما عكســها الحراك كلحظة تاريخية نوعية في تاريخ هذا الشــعب الصبور والمســالم. ما يعيدنا إلى تلك الثقافة السياسية التي ما زالت مترسخة لدى النخب الرسمية العسكرية والمدنية، التي يمكن أن تتحول إلى عائق فعلي أمام أي تغيير سياســي سلس، يمكن أن نضيف إليها الخوف من التغيير لدى القيادة العســكرية، وســيطرة القــراءة الأمنية للحراك وللحياة السياســية، التي يكرســها عدم وجود مؤسســات فكريــة ـ كمراكز البحــث - يمكن أن تســاعد الجزائريين علــى النقاش فــي ما بينهــم، يتعرفون داخلهــا علــى اختلافاتهم ونقاط تفاهمهم بشــكل مباشــر ودقيق، بــدل الغمــوض الأيديولوج­ي الســائد، والعنعنات الرائجة التي تزيد من حجم ســوء التفاهم. في وقت زاد فيه غلق وســائل الإعلام العمومي الرســمي والخاص، ما رحّل النقــاش الجزائــري ـ الجزائــري إلى الخارج، بكل الســلبية التــي يمكــن تصورهــا.. نقاش الغائــب الأكبر فيه الدراســة الموضوعيــ­ة والبحث الرصين، الــذي ما زال مفقــودا عندما يتعلــق الأمر بهــذه المؤسســة - اللغز. التي تحــول النقاش حول إبعادها عن التدخل في الشــأن السياسي المباشر إلى الشــارع.. تبناه المواطن العــادي وهو ينــادي بدولة مدنية، وهو ينتقد بشــكل غير موفــق في بعض الأحيــان، قياداتها العســكرية. بواســطة أهازيج وشــعارات ذات صلــة بأزمة التســعيني­ات، بــكل مــا عرفتــه من ويــات، تحــاول بعض القوى السياســية المنظمة إعادة طرحها من جديد، في سوق السياســة بين أبنــاء أجيال لــم تعش هذه الأحــداث أصلا، وقطعــت نهائيــا مــع الثقافة السياســية التــي أنتجتها هذه اللحظــة العنيفة فــي تاريخ البلد. مؤسســة المطلوب منها أن تتجه صوب المســتقبل لإنجاز مهامها الدستورية كمؤسسة مركزيــة للدولــة الوطنيــة، مــا زالت تحظــى باحتــرام كبير وشــرعية أكيدة لدى الجزائريين، ســتزداد وتترسخ عندما تتجه نحو هذا المســار الدســتوري، القانوني الذي ســيخدم بشــكل جلي المؤسســة ذاتهــا ورجالها قبل المواطــن والبلد ككل. يمكن أن يســاعد على إنجازه كشــروط مقــدور عليها، تقوية المؤسسات السياسية كالأحزاب، ونجاح الانتخابات وإفراز نخب مدنية شرعية كفيلة بملء الفراغ، الذي سيتركه انســحاب الجيش، من ســاحة الفعل السياسي، كما حصل فــي الكثير من الــدول التي نجحت في تخطــي مرحلة تدخل العســكر في الشأن السياسي.. تدخل تبين أن وتيرته تزداد كلمــا زاد منســوب الأزمة السياســية، وفشــلنا فــي إيجاد الحلــول التوافقيــ­ة لها، كمــا هو الحــال في المــدة الأخيرة، انسحاب ســيكون لصالح التركيز على أدوار هذه المؤسسة الدفاعية على الحدود المشــتعلة التي ســتكون وهي تنجزها في حاجة إلى هذه الشرعية والدعم الشعبي.

لتبقى لحظة الحراك أكثر من مهمة في إنجاح مســعى هذا التحول في أدوار الجيش نحو الاحترافية، البعيدة عن الفعل السياسي المباشر، ودخول مسار الدولة المدنية التي تقتضي الابتعاد عــن القراءة الأمنية الســائدة حاليــا، للوصول إلى تصالح تاريخي مع الشــعب الجزائري وشبابه، الذي يقود الحراك المنتمي إلى الجيل نفســه الذي يســيطر ديموغرافيا داخل المؤسســة العسكرية. فهل ســيكون الحل في الجزائر على يد هذا الجيل مهما كانت المواقع التي يحتلها؟

قناعة المواطنين هي بطرح قضية العلاقة بين السياسي والعسكري في الجزائر كأحد المفاتيح المهمة للإصلاح السياسي الذي ينادي به الحراك

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom