Al-Quds Al-Arabi

مَنْ يَمْلكُ سُلطةَ نزْع حقّ مقدّس؟

إسْقاطُ الجِنْسِيَة

-

الجنســية كما الحياة، شــيء مقدّس، لا يمكن المــسّ بها تحت أي مبــرر كان، وما يحــدث اليوم في الجزائر ســابقة خطيرة. من قرر أن يســقط الجنســية عن شــخص ما، في الجزائر تحديداً، عليه أولاً أن يمحو آثار دم الأجداد التي سقَتْ وحدّدت استحقاقه لهذه الجنسية، فهــي ليســت منّة مــن أي نظام يمنحهــا وينزعها كما يشــاء، ولكنها توريــث، وأكثر من هذا اســتحقاق. وراء كل جزائــري تاريخ من الدم المتــوارث والآلام ثقيلة، لكي تتحرر البلاد، أكبر بكثير من أي مشـّـرع. هل يُعقل؟ جزائر القرن الحادي والعشــرين تقرر إســقاط الجنســية عــن كل من لا يناســب خطابهــا، أو يناقضــه. وكأن القوانين الظالمة والســجون وقضاء الأوامــر والتليفونـ­ـات، لم تعد كافيــة. لم يتجرأ أي نظــام، منذ الاســتقلا­ل حتى اللحظــة، على القيام بهــذه الخطوة الخطيرة، لسبب بســيط هو أن الجنسية صيرورة وليست اكتساباً؟ ميــراث لا يمكن لأي نظام مهما أوتي من قــوة وبطش أن ينزعها ممن يعادونــه )هو الوطن( أي منطق هذا؟ مخاطر فكرة كهذه إن رُسِّــمت، ســتفتح منفذاً لكل الفاشــيين أن يدخلــوا منها لتدميــر البلاد. هناك ترســانة من القوانين العقابيــة التي يمكن تفعيلهــا، تبدأ من الحبس بســبب جنحة، وتنتهــي بالمؤبد والإعــدام )مع وقــف التنفيذ(. أكبر خطأ تاريخي يرتكبه النظام والعدالة الجزائرية هو إسقاط الجنسية عن المخالفين السياســيي­ن مهما كانت مخاطرهم. خطأ جسيم ومدمر للنظام نفســه، لأنه وقتها لن يختلف عن الأنظمة الفاشــية في شيء. الذاكــرة التاريخيــ­ة تحفــظ لنا ما فعلتــه النازية التي شــردت أجيالاً بكاملها لقناعاتها السياســية التي لم تكن تناســب الرايخ الثالث، أو حكومة فيشي التي نزعت من يهود الجزائر الجنسية الفرنسية التي كانوا قد اكتسبوها وفق قانون كريميو )وزير العدل أدولف كيريمو( في 1870، أو ما فعله فرانكو ضد الجمهوريين الذين رفضوا إجهاضه للتجربة الديمقراطي­ة وقاوموه، وبينوشي في التشيلي، وكأن النظام بعملــه الخطيــر هذا يريــد أن يصنع من جيــل بكامله جيــاً بلا هوية ‪Génération Apatride‬ ولاوطن،جنراســيون­أباتريــد. بهذا القانون الأعمى ســترتكب الســلطة خطأ قاتلاً ليس في حق شــعبها، ولكن في حق شــيء اسمه المواطنة، ناهيك عن كونه مناقضاً لقانون الجنســية الجزائــري القائم فــي مــواده 22 و 23 و 24 لا ينصّ مطلقاً على التجريد منها إلا لمن اكتســب الجنســية وارتكب عملاً خطيراً. ثم إن الجزائر بحكــم مصادقتها على الكثير من الاتفاقيات الدولية التي تنصّ على الحقّ في الجنســية والمواطنة، فإن قرار المشــروع مخالف تماماً للأعراف الدولية وميثاق الأمم المتحدة، وهو ما ســيضع البلاد مرة أخرى في فوهة المدفع. حتى الحركى الذين تواطأوا مع المستعمر لم يتجــرأ أي نظام أن يســقط عنهم هذا الحــق، ولا الإرهابيين الذين أبــادوا البلاد وأحرقوها قبل أن يُمنحــوا صكوك الغفران من النظام، بــل لم يُمسّ حتى الذين عاثوا فســاداً في جزائر اليــوم، ونهبوا المال العام بمئات المليارات، وتاجروا بســبائك الذهب ببيعها في الســوق السوداء الوطنية؟ مسخوها البلاد، وشوهوا سمعتها.

ســعد الجزائريون عندما قرر المشــرّع الجزائري نزع مادة البؤس التي فرقت فــي المســؤولي­ات العالية بين جزائــري الداخل جزائري الخارج. النظام الجزائري هو الوحيد الذي يجد متعة في سحق عظام الدياســبو­را المرتبطة عضوياً بأرضها وشعبها، الفريق الوطني لكرة القدم المكون من أغلبية المهاجر، الذي رفع العلم بفوزه بكأس إفريقيا، أســعد ملايين الشباب في عز الظلمات. لقد اختار أعضاء هذا الفريق الشــاب والمتحمس اللعب للفريق الوطني مــع أن تكوينهم كله تم في المهاجر التي ولدوا فيها. هؤلاء سيكونون، بحسب هذه القوانين غير المحسوبة، جزائريين من الدرجة الثانية، وأي خطأ يرتكبونه سيجعل منهــم أباتريد )بــا وطن(؟ على الســيد رئيس الجمهوريــ­ة، بوصفه القاضــي الأعلى للبــاد، أن يتدخل ويلغي هذا القانــون الخطير قبل فــوات الأوان، وأن يدفع بوزير العدل إلى العمل على تأســيس عدالة حقيقية يثــق في نزاهتها الجميع اســتجابة للحــراك، ويقطع نهائياً مع ممارســات العصابة، ويفعّل القوانين العقابية لاســترجاع مئات المليــارا­ت التي عبــرت الحدود عن طريق شــبكات مافياويــة مهيكلة مــن العصابة نفســها، ويحاكــم جدياً من تســبب في انهيــار الدولة كنظــام وأفرغها مــن أي تعبير وطني حقيقي. لا نعلم إذا كان الســيد وزير العدل، بلقاســم زغماتي، يريد إيقاف الحراك أم إشــعاله؟ فكل تصرفاتــه وتصريحاتــ­ه تقود البــاد إلى الحافة الخطيرة «إســقاط الجنســية الجزائريــ­ة المكتســبة أو الأصلية هو ما ســينطبق على أي جزائري يرتكب خارج التراب الوطني )بهذا المنطق، يســتطيع المجرم داخل الوطن أن يفعل ما يشــاء( أفعالاً تلحق ضرراً جسيماً بمصالح الدولة، أو تقوض وحدتها الوطنية»، وينطبق هذا الإجراء أيضاً على «كل من ينشــط فــي منظمة إرهابيــة أو ينضم إليها، ومــن يمولها أو يدافع عنها، وعلــى أي جزائري يتعاون مع دولة معادية)؟( حســب ما أورده التقرير. الكلام فضفاض ينطبق على كل من يريدون اتهامه )مــن هــي الدولة العــدوة؟(. ما معنى يلحــق ضرراً بمصالــح الدولة )النظــام(؟ وتقويــض الوحــدة الوطنيــة. أي وحدة؟ هــل منطقي أن تظل منطقتا القبائــل الكبرى والصغرى خارج نظــام الجمهورية في الانتخابــ­ات مثلاً؟ تعيشــان في عزلة سياســية كليــة دون أن يمتلك سياســي واحد الجرأة الكافية للذهاب نحــو ناس هم جزائريون في النهاية حتى إشــعار آخر؟ من قــوّض هذه الوحدة؟ مــن حمى القتلة داخــل النظام وخارجــه، من المحاكمات التــي كان يجب أن يخضعوا لهــا، بعد أن دمــروا وقتلوا وأحرقــوا وأبادوا. ما صــرح به المحامي والناشط الحقوقي مقران آيت العربي، مهم جداً: «مهما كانت خطورة الجرائم التي ارتكبها حامل الجنســية الأصلية فلا يمكن سحبها، لأن الجزائري الأصيل يفضل الإعدام بســبب الجرائم التي ارتكبها، على حرمانه من الجنسية التي ضحى آباؤه وأجداده بأنفسهم من أجلها.

في النهاية، الجنســية الجزائرية الأصلية لم تُمنح من أي ســلطة تشريعية أو تنفيذية لتُنزَع أو تُسقط، هي شيء طبيعي ونهائي وغير قابل للإلغاء والتصــرف، ولا يمكن أن يخضع لأي مصادرة، كما أكّد الدكتور ياسين تركمان، رئيس المجلس الإقليمي لنقابة أطباء البليدة. فهي ليســت وثيقة إدارية يمكن إلغاؤها متى ما شاء النظام، وليست قراراً مزاجياً خاضعاً للتحولات السياسية، هي أكبر من هذا كله. هي اعتــراف ضمني بأن المواطنين سواســية علــى أرض حماها الأجداد الذين قاوموا موجات الاســتعما­ر المتتالية من الرومان، على الوندال، إلى العثمانيين إلى الملوك الكاثوليك الإســبان في حروب الاسترداد، إلى الاســتعما­ر الفرنســي، وبنوا وطناً منحوه اســماً وحــدوداً، من عرقهــم ودمهم. لهذا، فالجنســية هي في النهاية ثمــرة تراكم، مكنت الإنســان من الانتســاب إلــى وطن بعينــه دون غيره. ميــراث التراب والدم والمشــترك الحياتي في لحظات الفــرح ولحظات الألم الصعبة الذي لا يمكن العبث به. مشــروع قانون إســقاط الجنسية لا يشرف، لا النظــام الذي ســنَّه ويريد فرضه، ولا البلاد التــي دمرتها العصابة السياســية- الماليــة، ويضــع الجزائــر برمّتها على حافــة مخاطر لا تحصى.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom