Al-Quds Al-Arabi

باحث فلسطيني يؤمن بحتمية عودة العرب والمسلمين للحضارة العصرية عبر إحياء إرثهم العلمي

أسّس مركز «الزهراوي» للأبحاث كي لا يبقى الموروث العلمي التاريخي فولكلورا

- الناصرة ـ «القدس العربي»:

الدكتور محمد يحيى، ابن بلدة كفر قرع داخل أراضــي 48 ،هو مــن أوائل الأطبــاء العرب في البلاد، وقد ذهب بعيــدا لحيازة التعليم العالي حتى وصل مدينة فرانكفورت الألمانية في مطلع ســبعينيات القرن الماضي. عاد مــن هناك قبل عقود طبيبا وذلك بعد ان ســاهم في بناء معهد تاريخ العلوم العربية ـ الاســامية في جامعة فرانكفورت، وما لبث أن أسّس جمعية الزهراوي لأبحاث العلوم العربية الإسلامية أسوة بمعهد فرانكفــور­ت ومن ثم إقامة مركــز أبحاث المثلث برعاية جامعة تل ابيب ووزارة العلوم.

لم تكن مسيرته ســهلة قد اضطر كالكثيرين من الطلاب العرب الفلســطين­يين للعمل الشاق وكان نصيبــه العمل لعامين فــي مصنع للطوب قبل سفره لألمانيا.

يمتــاز الدكتور محمد يحيى بإلمامه الواســع في تاريخ العلوم العربية ـ الإســامية، وكذلك المخطوطات وتهيئة الخطــوط العربية للقراءة الإلكتروني­ــة المحوســبة، كمــا يســعى للدفاع عن الحضــارة والعلوم العربيــة التي ألت إلى فولكلور. لذا يؤمن بروحه المتفائلة بأن الحقيقة ســتنتصر يوما باعتراف العالم بــدور العرب في الطب والعلوم الحديثة وباســتعاد­تهم روح حضارتهم، معتقدا بضرورة خلق علاقة متبادلة ما بين الأصالة والحداثة قادرة على شــق طريق النهضة، وهو اليــوم يحلم ببناء متحف للعلوم العربية ـ الإســامية في البــاد. هذا الدارس الباحث عــن الطريق ل إحيــاء العلوم العربية المعتــز بلغته الأم، منحاز للأغنية الكلاســيك­ية وتطربه فيــروز مثلما تســتهوي قلبه وتدغدغ وجدانه زيــارات الأندلس بشــكل خاص، كما يقول في حديث لـ «القدس العربي.»

درس الدكتور محمد يحيى في ســبعينيات القرن الماضي فــي فرانكفورت في المانيا ودرس الطب هناك لسببين، الأول بسبب جودة التعليم وثانيــا لتوفر فرص العمل للطلبــة. ويقول إنه مكث فــي فرانكفورت1­3 عاما لــذا كانت عودته لبلده صعبة، وبالنســبة له فرانكفورت مدينة ليســت بذلــك الجمــال مقارنة ببعــض مدن ألمانيا لكنــه يحّن لما تعلمه فيها. أنهى دراســته الثانوية فــي مدينة الطيرة المجــاورة وبعدها عمل في مصنع للطوب لسنتين بسبب الأوضاع الاقتصاديـ­ـة، ثم ســافر لألمانيا وبعد شــهرين من تعلم الألمانية في معهد غوته اســتطاع تدبر أموره اللغويــة بمفرده مثله مثــل بقية الطلبة العرب الفلســطين­يين. ويتابــع «إن التأقلم في مدينة المانيــة لم يكن مهمة ســهلة، فقد وجدت نفسي فلاحا في مدينة كبرى كونية.»

فــي فرانكفورت تعلم الطــب ودرس العلوم العربية -الإسلامية وعلل ذلك بالقول إن رغبته ولدت بعدما لاحظ غياب أثــر الطب العربي في تاريخ الطــب الغربي، فقرر بعــد إنهاء مرحلة «فيزيكــوم في الطب» الصعبــة إعداد أطروحة الدكتوراة في هذا المجال بموازاة تعلم الطب.

وتابع «ذهبت إلى معهد تاريخ الطب في كلية الطب في جامعة فرانكفــور­ت ومن هناك بدأت المسيرة ونصحني الأســتاذ المرشد باستشارة الباحثــة المعروفة زيغريد هونكــه مؤلفة كتاب «شــمس العرب تســطع علــى الغــرب ». وعن ذلــك يضيف «كان عمرها ثمانــن عاما ولم أجد مســاعدة لديها فعدت للمرشــد فأرسلني عام 1977 لأســتاذ تاريخ العلوم فــي كلية الفيزياء في جامعة فرانكفورت وهو البروفيسور التركي الشهير فؤاد ســزكين مؤلف الكتاب الموسوعي الضخــم «تاريــخ التــراث العربــي» « باللغة الألمانية، وأصل مشــروع سزكين تصويب كتاب بروكلمــان «تاريخ الأدب العربــي» إلا أن كثرة التصويبــا­ت والاســتدر­اكات والإضافات أدت إلى ميلاد اســتقلال عمله وولادة كتاب «تاريخ التراث العربي» ولهذا الكتاب الضخم دور كبير جدا في تبيان مكانة الحضارة العربية في تاريخ العلم .»

بعد ســنة ونصف الســنة من دراسة تاريخ الفلــك والرياضــا­ت والفقه وتاريــخ الفيزياء والكيميــا­ء وعلوم اللغة لاحظ المرشــد اهتمام حج يحيى بتاريــخ العلوم فنصحــه بالتركيز عليه، وســأله باللهجة المصرية إذا كان مستعدا لمؤازرته في تأسيس معهد خاص بتاريخ العلوم العربية ـ الإسلامية، وهكذا حصل.

بين الأصالة والحداثة

أما عن العلاقــة ما بين الأصالة والحداثة فإن المشــكلة القائمة اليوم تتمثل في فصل الأصالة عن الحداثة في رأي حج يحيى الذي يتابع بهذا المضمار «هنالــك تيار يفهــم الأصالة على حدة والحداثة علــى حدة وهذه مصيبة، والأصح هو خلق علاقــة جدلية بين الاصالة والحداثة تكون كفيلة بشــق طريــق النهضة المنشــودة. فمثلا كوني طبيبا استطيع فهم الطب العربي، بمعنى ان الحداثة التــي علمتني الطب مكنتني من فهم الأصالة فــي الطب العربي. فبــدون الحداثة لا نســتطيع فهم الأصالــة وهذا ينطبــق على كل العلوم .»

هذا عن أثر الحداثة في الأصالة، أما عن الأثر المعاكس فيقول إنــه بعد معرفــة دور الأصالة العربيــة في تاريــخ العلم فهذا يتيــح اقتحام الحداثة، كون العرب شــركاء في تطوير العلم البشري. وفي هذا السياق يضيف واثقا «سوف يــرى كل من يســلك نفــس الــدرب ان علومنا العربية لها دور كبير في الحداثة المعاصرة سواء على صعيــد العلوم المختلفــة او التكنولوجي­ا، والعودة للطب العربي محفز لاقتحام الحداثة.» ويقول إن مضخة الجزري مثلا هي مثال واضح على ذلك، فهو قد اختــرع اختراعين كبيرين من خلال هذه المضخة مكنت ولأول مرة في التاريخ العمــل بشــكل اوتوماتيكي وتحويــل الحركة الدائريــة الى حركــة خطية، وهذا هو أســاس المحرك للسيارة، والسفينة والصاروخ.

■ إذن مــا ســرّ فتوة وثــراء اللغــة العربية كما تقول؟

□ عــن هــذا الســؤال يقول حــج يحيى إن «المستشــرق الفرنسي المشــهور رينان الذي لا يحبّه لأنه مســتعرب وساعد نابليون بونابرت على كشــف المواقــع المهمة في فلســطين وباقي الدول العربية من أجل احتلالها، ولكنه قال عن العربية «اللغــة العربية لغة لا نعرف لها طفولة ولا شــيخوخة وقد حضرت دفعــة واحدة في التاريخ وما زالت تحقق انتصاراتها الباهرة.»

■ كمهتم وباحــث بالخطوط العربيــة هل تقرأ كل المخطوطات؟ وما حال هذه المخطوطات اليوم؟

□ وعــن ذلك يــرد «الإرث العلمــي العربي الإســامي هــو الأغنى مــن نوعه فــي العالم، فالحضــارة اليونانيــ­ة مثــا تركــت 40 ألف مخطوطــة فقــط هــذا مقابــل عشــرة ملايين مخطوطــة عربية، وهــي ما تبقى مــن التراث ومتناثرة في 90 دولة عربية وإسلامية وأجنبية. ربما تجد من يقول إن هنــاك مليوني مخطوطة أو ثلاثة ملايــن، ومع ذلك يبقــى الرقم مذهلا. المهــم ليس عدد المخطوطات إنمــا ما تم تحقيقه منها لا يتجاوز للأســف 200 ألــف مخطوطة، وبذلك نحن لا نفقــه هذا الإرث العلمي العربي ـ الإسلامي لأنه ببســاطة غير محقق وغير متاح للعلم. وكانت الفكرة عندما أسسنا مركز أبحاث المثلث/الزهــراوي في بلدي كفر قــرع أن نقوم بتطوير برمجية حاســوبية قادرة على التعرف على الحــرف العربي وبذلك نســتطيع التعرف على جمل وكلمات مفتاحية داخل النصوص في المخطوطات التي لم تقرأ بعد، وبذلك نســتطيع التعرف على مضامين هذه المخطوطات. بكلمات أخرى نستطيع بالاعتماد على هذه البرمجيات الحاســوبي­ة تحقيــق التــراث مهمــا كان عدد المخطوطــا­ت. ونحــن نعمل في هــذا المجال من خلال طاقم متخصص في تاريخ العلوم وعلوم الحاســوب، حيث أصبحــت لدينــا مجموعة متمكنة من العاملين، ونعمل بهذا الإطار المعروف عالميــا «تحليــل الوثائق التاريخيــ­ة» منذ عام 1995، وتعتبر مجموعتنا من المجموعات المتقدمة في هذا المجال على المستوى العام.

■ حقيقــة القيمــة المعرفية فــي القــرآن الكريم حسب رأيك؟

□ مــن منظور تاريــخ العلوم فقــد اعتمدت الفلســفة اليونانية العقل والاحســاس مصدر الأبستمولو­جيا او مصدر المعرفة، وهذا بخلاف الأديان التي رأت أصول العقل والإحســاس في إدراك الحقائق كلها وهي تعتمــد علوم الوحي كمصدر أولــي للمعرفة. القرآن الكريم هو مصدر المعرفة الأول ويتمّمه العقل والإحساس كما بيّن ذلك الغزالــي قائلا ان العلاقــة بينهما كالزيت

والفتيــل، وكلاهمــا ضــروري لتغذيــة الآخر للإنارة. أما قضية الإعجاز العلمي في القرآن فهي نهج حديث لم نعهده فــي عصر تألق الحضارة العربية الإســامية، فالعلماء المســلمون كانوا يكتبون ديباجــة كتبهم واســتهلال­ها للانتماء لدين الإســام وســيدنا محمد عليــه الصلاة والســام ثم ينتقلون مباشرة الى الخوض في العلم دون الاستشــها­د بآيات قرآنيــة، فلم نر ذلك لا لدى ابــن الهيثم ولا ابن الجزار في الطب وغيرهما، أمــا اليوم وبســبب الضعف العلمي في العالم الإســامي فهم يؤكدون على الإعجاز العلمي دعما للعقيدة، كمــا أنهم يعتمدون على وكالة ناسا مثلا وليس ابن الهيثم، وهذا ضعف في نظري.

مركز الزهراوي

كانت البداية عام 1985 والفكرة الأساســية من وراء تأسيس الجمعية والمركز في بلدته كفر قرع هي العودة للجذور العلمية للتراث العربي ـ الإسلامي وتنحية الفولكلور جانبا.

وينوه حج يحيى إلى أن تراث العرب العلمي هو القــادر على إلحاقهم بالعصــر الحديث، في حين ان الفولكلور فشــل فشــا ذريعا في ذلك بل أضر بهــم كثيرا وجعــل حضارتهم حضارة بدائيــة تتعامل مع الطعام والشــراب والملبس والمســكن الخ. بعد عدة ســنوات في العمل في تاريخ العلوم تكونــت مجموعة أكاديمية علمية قوية آمنت بالفكرة ومن هنا تقدمنا وقمنا بإقامة مركز بحث وتطوير ودراسة احتياجات المجتمع العربــي الفلســطين­ي في الداخــل، وذلك على صعيد الصحة، البيئــة، الزراعة، التكنولوجي­ا والقضايا المجتمعية.

الزيوت العطرية

يعنى «الزهراوي» بدراســات لاســتخراج زيــوت من نباتات وأشــجار ويبحــث علاقتها بالحشــرات لمكافحــة الأمــراض، أي المكافحة البيولوجيـ­ـة الخضراء للحشــرات، وبالتالي حمايــة المحصول كالزيتــون والنخيل والتفاح والخضراوات من مضارها. كما يســتغل عملية اســتخراج او تقطير هذه الزيوت حسب طريقة التقطير الأولى فــي العالم لجابر ابن حيان أبي الكيمياء الحديثة، فقام حــاج يحيى وباحثون زملاء لــه ببناء نمــاذج لآلات التقطير العربية التــي قام بها جابــر ابن حيان وقطــر الكحول وتحاليل كيميائية كثيرة وكذلك اختراع ســبل كيمياوية أخرى مثل التســامي والتبخير الخ... وبذلــك تم وضع لبنــة أساســية لإقامة متحف للعلــوم الإســامية، بالإضافــة الــى مضخة الجــزري. ويضيف «لقــد قمنا بتســمية المركز على اسم الجراح العربي أبو القاسم الزهراوي

مؤســس الجراحة الحديثة، لأنه أول انســان اســتطاع ان يجري التخدير العام غير المعروف عند اليونان او غيرهم.

■ لماذا لم تنهض الحضارة العربية الإسلامية بعد؟

□ هذا ســؤال كبير عقدت حولــه مؤتمرات عالمية كثيرة، وهذه القضية تعرف علميا بقضية أسباب الركود في الحضارة العربية الإسلامية، وأنا أعتقد كأستاذي انه لا يمكن ان نفهم أسباب الركود ما لم نفهم أســباب الصعود، وأن ما زال من الصعود هو ما تبقى لنا اليوم.

■ ربمــا نهتــدي بالإجابــة عــن هــذا الســؤال بالعودة لعصر النهضة )الريناسنس( الأوروبية؟

□ لا توجــد نهضة أوروبية. هناك اســتمرار للعلــوم العربيــة التــي أخذوها منــا ومفهوم الريناسنس هو إحدى حلقات الطمس للحضارة العربية ـ الإســامية، فبدون العلــوم العربية لا يمكن لأوروبا ان تنهــض ولقد تزامن نهوض أوروبا مــع بداية ركود الحضارة العربية، وهذا حصــل منذ اربعة قــرون، واليوم نــرى البون الهائل بين الواقع الأوروبي والواقع العربي، اما قضية ركود الحضارة العربية الإســامية فهذا شــيء طبيعي، فكل الحضارات مصيرها الركود كالفرعونية واليونانية وباقي الحضارات.

■ دور الأندلــس فــي الحضــارة العربيــة ـ الإسلامية؟

□ انتقلــت الحضــارة العربية الإســامية عبر ثلاث محاور أساســية، أولهــا الأندلس ثم صقلية باللغة اللاتينية ثم انتقلت من طرابزون وبيزنطة باللغة اليونانية، مثال على ذلك اثبت المستشــرق كيندي مصــادر جاليليــو العربية المترجمة الى اليونانية وليس اللاتينية.

■ وما حلمك الراهــن بعد خروجك للتقاعد بعد عملك في الطب لأربعة عقود؟

□ أنــا الآن بالســابعة والســتين ولدت من جديــد... وعندما ســألوني أي هديــة تريد أن نقــدم لك بمناســبة خروجــك للتقاعــد قلت» مصاصة وقنينة حليــب» لأنني ولدت من جديد وحلمي اليــوم إقامة متحــف افتراضي للعلوم العربيــة الإســامية ومتحف حقيقــي متنقل لــأدوات العلميــة داخــل أراضــي 48، وقمنا ببناء مضخة الجزري التــي تبين كيفية تحويل الحركة الدائرية إلى حركة خطية وهي أســاس المحرك )الماتور(. رســالتنا للعالم من خلال هذا المتحف أننا شركاء أساســيون في الحضارة لا عبئــا عليها، وكان عندنا ركود لكننا ســننهض ونساهم أكثر يوما ما في إثرائها ومواصلة دورنا الحضاري.

 ??  ?? الدكتور محمد يحيى
الدكتور محمد يحيى

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom