Al-Quds Al-Arabi

الحب في مواجهة الموت

رواية «عفن أحمر» للأردنية تبارك الياسين

- ٭ روائي وناقد أردني أحمد الغماز *

 لكونهــا فنانــة تشــكيلية وقاصة، لم تستطع الأردنية تبارك الياسين الابتعاد عن اللوحة في رســمها الدقيق لمشــاهد روايتها «عفن أحمــر» التي تمزج الأحمــر والأزرق، لونــا الحياة والموت علــى تفاصيل الرواية، وظلاً أســود ربما طغى على كل تلك الألوان. يبدأ هذا مــن الإهداء المقتضــب، الذي جاء على غير عــادة الروائيــن عندما يختارون عنوانا شاعرياً أو جاذباً، فكان.. )إلى البلاد التي حملنا لهــا خنجراً، إلــى الأرواح التي أزهرت ياســميناً(. كذلك اختــارت الكاتبة اسماً لشــخصيتها المركزية )سماح(، حيث لا تختفي دلالته، رغم كل ذلك الأسى، الذي جاء على لســانها، لربما أن يكون فعل التســامح مقابلاً لذلك الــدم الذي أريق في الشــوارع وأقبية السجون.

المومس الفاضلة

منذ أول سطر، وأول الحكاية تذهب تبارك إلى نســج معمارها الروائي على مســرحية سارتر المشــهورة «المومس الفاضلة» لتقوم ســماح بدور تلــك المومس التــي تخفق في أدائه، كما يعبر عن ذلك )برهان( الشخصية التي ســنأتي عليهــا لاحقاً. ولا بــد هنا من الاقتــراب قليلاً مــن دلالة المســرحية، فقد قال ســارتر عنها، إنها ضــد العنصرية بكل

أشــكالها، ونحن نعرف أن ما يجري الآن من عنف وإرهــاب ودماء ينتج مــن العنصرية وعدم قبول الآخر.

وما ســتقوله ســماح لاحقــاً مبني على ذلك المشــهد المســرحي أو اختيــار موضوع المسرحية.

برهان وحتمية الموت

الشخصية الموازية لشخصية سماح، هو برهان، الفنان الحالم الذي يرى في مشــهد الدمار اليومي والقنص والبراميل المتفجرة، كأنهــا مســرحية تراجيدية أبطالهــا أولئك الذين ســرقوا حلمه وحلم الشعب بالعنف والقتل والســجن. فالحياة لعبــة عبث ولا طائل منها، أمام كل ذلك الأســى الذي حرمه حق التعبير وحق الحياة، هو كمثقف وفنان يجد أن أهم سلاح يمكن أن يمتلكه للدفاع عن نفسه وعن العالم هو الفن.

فــي المعتقل كانــوا يواجهونه بأســئلة وهو تحت التعذيب عــن علاقته أو وصفه بموليير، الذي يريد التغيير ويريد الحرية. وعلى الرغم من الانسجام بينه وبين سماح في قصة حب لــم تنتهِ على خير، فقد كانت ترى فيه فارســها )ملامح وجهه كالصقر وقلبي يخشــى عليكِ منه(، هكــذا قالت إحــدى الشــخصيات الثانوية لســماح عندمــا رأته. ومع ذلك كانــت العلاقة بينهما مهتزة ظاهرياً وعميقة مــن الداخل، فهو في غضبه كان يصــف ســماح بالمومس، وهي تصفه بأنه شخص متعدد العلاقات.

تعدد الأصوات

انحازت الروائية تقريباً إلى نمط الرواية الجديــدة، التــي تعتمد على تعدد الأصوات.. فـ)إبراهيم(، الشــاب الذي ســافر إلى العراق ـ للجهــاد ـ والذي درس التمريــض، يأتي الحكي على لســانه راسماً لوحة مشــهدية لحجم العنف والقتل والدمار والتفجير الــذي أحدثه الإرهابيون في العــراق، من خلال حالــة اللاوعي التي دخل فيها إبراهيم، فقد أصبح يتخيل أشياء لم تحدث. وهنا تريد الكاتبة أن تقدم للقارئ نموذجاً محطماً جراء ذلك الفكر العفن، وهو أحمــر بالضرورة دلالة علــى نزيف الدم الذي أحدثه.

المكان الاجتماعي

لم تذكر تبارك الياســن المكان صراحة منــذ بداية الرواية، لأنهــا تماهت بالحدث المعــروف تقريبــاً للقــارئ.. )البراميــل المتفجــرة، القنــاص على ســطح العمارة المقابلة، الحواجز علــى الطرقات(. فاكتفت وأوصلت للقارئ أين تدور تفاصيل الحكاية، وذهبت إلــى التلميح في منتصــف الرواية إلى أن بيت شخصيتها المركزية سماح، كان المجاهدون ضد الاحتلال الفرنسي يختبؤون فيه، ثم ذكرت لاحقاً مدينة حمص لكن بشيء من الاستحياء، وبذلك نجحت إلى حد كبير في الابتعاد عن المباشــرة واستخدام المكان الاجتماعــ­ي، الذي يصــف حميمية وعلاقة الشــخصية به، دون رســمه هندســياً كأن تقول )سوريا، دمشــق، درعا، إلخ...(. هي بذلك تريــد للقارئ أن يبتعد قدر الإمكان عن التكرار أو التاريخ ، لأنها أولاً وأخيراً ليست مؤرخة وانما روائية تحاول إضاءة المناطق المعتمة.

في شــخصيات الرواية القليلة، الثانوية والرئيســي­ة، هناك قاســم مشــترك، العفن الأحمر.. الموت والحرب بمعناهما الحقيقي لا المجازي، وقد عبّرت الياسين عن ذلك بأسلوب روائي متقن، من خلال رســم الشــخصيات داخليــاً وخارجياً، فاســتخدمت المونولوج لتعبر الشــخصية عن ذاتها، دون تدخل من الروائية، بل تركت شخصياتها تتحرك دون إملاء أو وعظ أو إرشاد، وقد قالوا حكاياتهم الصغيــرة دون رتوش أو تجمــل، وقد ظلت الكاتبة بعيــدة عن رأيها في مــا يحصل من قتل يومي، ولم تنزح لجهة دون أخرى، وهنا دخل القارئ في العمليــة الإبداعية بوصفه شريكاً لا متلقياً فحسب.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom