«السنوات الـ 54 الأولى» للمخرج الإسرائيلي آفي مغربي: الاحتلال كآلة مُمنهَجة
■ نبدأ من العنوان، فلا يصلح تناول فيلمٍ لمخرج إسرائيلي، يحصر موضوعَه في القسم المحتل من فلســطين عام 67، دون التنويه إلى التالي:
ليــس فــي الفيلــم إشــارة إلــى أنّ الاحتــال الإســرائيلي، بطبيعتــه الإحلاليــة والاســتعمارية، قد بــدأ عــام 48. وهذا مأخذ أساســي لمشــاهدٍ فلســطيني، لأيّ فيلــم إسرائيلي ينتقد الاحتلالَ ولم يعُد بموضوعِه، ولو إشــارة إلى عــام 48. لكــن، والحال هذه، لا ضــرر فــي أن يتحــدّد موضــوعُ فيلــم، أو بحــث - كما هــو حــال فيلمنا هنــا - ضمن أزمنة وأمكنة تكون مجالَ الدراســة، وهذا ما يفعله فيلم «الســنوات الـ54 الأولى»2021(،)
موضّحاً ذلــك بعنوانه الفرعــي «دليل موجز للاحتــال العســكري». وهذا كذلــك ما فعله المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه «أكبر ســجن على الأرض... ســردية جديدة لتاريخ الأراضــي المحتلــة» (الـــ67 زمانــاً ومكانــاً( لكنّــه، بابيــه، كتب كذلــك «التطهيــر العرقي في فلســطين» (الـ48 زمانــاً ومكاناً(. لكل من الكتابين )ولغيرهما لبابيه( حدود موضوعه، إنّمــا يكمــان بعضهمــا مــن حيــث مقاربــة الاحتلال تاريخياً.
إذن، مــن ناحية، يَعتبــر الفيلمُ أن الاحتلال العســكري الإســرائيلي بــدأ عــام 67، وهــذا يؤخــذ عليــه. ومــن ناحيــة ثانيــة، تناوُله لما ســماه احتلالاً عســكرياً لأراضي عام 67 كان كاشــفاً ضرورياً لممارســات الاحتلال هناك، وهذا يُحسب له.
مجــال التنــاول فــي الفيلــم، انحصر في الضفــة والقطاع لســبب بنيوي هــو اعتماده على شــهادات مــن جنود ســابقين، كانوا قد أدلوا بها لمنظمة «كســر الصمــت، التي بدأت منــذ عــام 2004 بتجميــع شــهادات لجنــود تحكي عن ممارســاتهم في الضفــة والقطاع، بحياديــة، دون رأي أو تعليــق ودون حاجــة للشــعور بالذنب أو الفخر، مهما بشعت هذه الممارســات. فكانت مواد خاما تكمن أهميتها فــي ذلك، ولا تقل الممارســات التي تُحكى عن اعتداد، أهميــةً عن تلك التي تُحكى عن خزي، بل تزيدها أهمية لحــرص أصحابها على كل تفصيل لممارسته بدءاً بأبشعها.
وازى مغربــي، فــي فيلمــه، بين نقــل تلك الشــهادات وتشــريحه هو، أمــام كاميراته، لسياســة الاحتــال الإســرائيلية، كنمــوذج لأطول احتلال عســكري في العصر الحديث، مقدّمــاً تحليــاً ممنهَجــاً لتلــك الممارســات، الممنهَجــة، معلــاً ضــرورة كل ممارســة، بالنســبة للاحتــال، لاســتمراره مادياً على الأرض، ونفســياً فــي دواخل الفلســطينيين المحتلّــن، ليصيــر الاحتلال آلــةً تعمل ضمن ضوابــط مبنيــة، أساســاً، علــى ممارســات الأفراد، المتحكّمين بشكل شبه مطلق، ضمن
نطاق «خدمتهم» فــي الاجتياحات وحظــر التجوّل والاعتقالات والحواجز وغيرها. تحليل مغربي، الموجَز، لآلية عمل الاحتلال، مادياً ونفسياً، أتت انتقادية فاضحة، أظهرت بشــاعة الاحتــال بألســنة صنّاعهــا، وهي بشــاعة لم تأت بالصدفة، بل ممنهجة ومبنية على «توافــه» متراكمة يرتكبهــا «مجهولون، إنّما بتراكم الممارسات واستمراريتها كل هذه الســنين، يجعلها روتيناً حياتياً «عادياً» لدى كل من فارض الاحتلال والخاضع له. وتكمن أهمية ذلــك التحليل في بنائه على شــهادات مصــوّرة لجنود مارســوا، بأيديهــم، منفذين قــرارات مســؤوليهم أو مبادرين بأنفســهم، مباشــرةً، في «التوافــه» التي تعمّرت عليهــا آلــة الاحتــال العســكري الإســرائيلي )وبالتالي الدولة( التي، كمــا أثبــت الفيلــم، لــم تكــن أي مــن ممارساتها عشوائية. يختلــف أحدنــا مــع المســاحة )الزمانية/المكانيــة( الُمطلــق عليهــا «احتــال عســكري» هنا. يمكــن لـ»ال» التعريــف أن تمايــز بــن المطــروح فــي الفيلــم كـ»الاحتــال» الإســرائيلي، وما هو حقاً «احتلال» إسرائيلي هو جزء من عموم هذا الاحتــال، الممتد زمانياً إلى 48 ومكانياً إلــى كامل الأرض الفلســطينية. لكن - وهذا سؤال فلسطيني دائم - كيف ننظــر إلى فيلم إســرائيلي يحصــر مفهومَ الاحتلال في حدود الـ67؟ في ذلك تنقســم المقاربات الإسرائيلية «المعارِضة للاحتلال فــي الضفة والقطــاع» إلى تلــك المبنيّة على قلــقٍ من صــورة الممــارِس للاحتــال، أمام نفســه وأمام العالــم، وتلك المبنيّــة على قلق علــى واقع الممــارَس عليــه الاحتــال، وفيلم
مغربي أتــى ضمن المقاربة الأخيــرة. ويمكن، نظرياً، لفلســطيني أن ينجزه دون تغيير كلمة أو صورة فيه، إن حصر موضوعه بأراضي
الـ67 لكن، يبقى للفيلم أنّ جزءاً من أهميته تكمــن في كــون صانعــه إســرائيلياً، وكذلك الشــهادات فيــه، المتطابقــة مــع الروايــات الفلســطينية، المتناقضة مع تلك الإســرائيلية الرسمية والمتحلّقة حولها.
الَمشاهد الأرشــيفية للاحتلال الإسرائيلي منــذ أيــام الحكــم العســكري مــا بعــد عــام 67 مــروراً بالانتفاضــة الأولــى فأوســلو فالانتفاضــة الثانية، إلى الســنوات الأخيرة، تلك المشــاهد إضافة إلى الشهادات المباشرة لجنود من تلك المراحل، إضافة إلى التشــريح الذي قام به مغربي، لتلك الصور والشهادات، بتحليــات واســتنتاجات حــول الآلــة الاستعمارية كممارســة نموذجية في الضفة والقطاع، لكلّها قيمة أساسية هي تطابقها مع الرواية الفلسطينية لتلك الأحداث، في زمانها ومكانها، رواية المقموع/المضطهَد.
يبقــى أن الفيلم غير مكتمل فــي تقديم تلك الآليــة، باقتصــاره على زمانــه ومكانه، دون إشــارة إلــى أن الاحتــال بــدأ، أولاً، عام 48. ويبقــى الفيلــم، فــي الوقــت ذاته، ضــرورةً فلســطينية ضمن حدوده اللازم إكمالها بكل الأحــوال، ضمن مجــال تناوله الــازم مدّها كذلك.