Al-Quds Al-Arabi

اذهبْ داخل نفسك: عن «رسائل ريلكه إلى شاعر شاب»

- ٭ شاعر من البحرين

سبق أن قرأتُ «رسائل ريلكه إلى شاعر شاب» قبل أكثر من عشرين عاماً. ولا أذكر بالضبط إن كانت متضمنة في كتاب، أم متفرقة في مجلة، ونسيتها تماما. في الأيام الأخيرة عثرت علــى ترجمة جديدة للكتــاب، فأحببت اكتشــاف الرســائل مجدداً. شعرت، مســتذكراً، بعض الملاحظات التي أحب اســتعادته­ا، في صيغة تساؤلات أيضاً. ثمة العلاقة الغامضة بين الشاعر المبتدئ وتجربة شاعر آخر. فقد كدنا نفقد مثل هذه العلاقة. أحياناً أخشى أن يكون جيلنا هو آخر من يلتفت باحترام لمعلميه.

حميمية رســائل ريلكه تشــي بالرغبة الفتية للبوح لدى الشاعر، وهذا نزوع أغنى النصوص كموضوع عام، يتجاوز المرسِل والمرسَل إليه، وربما هذا ما جعل الرسائل تنطوي على تشــويق ما. غير أن عمومية المضمون، في تقديري، طاشــت في فضــاءات رحبة، لتتجــاوز فكرة الرسائل وطبيعة الشاعر الشاب.

ظني أن شطح البوح، الذي تجلى في الرسائل، فاض على الشاعر الشاب، حتى أنه اكتفى من ريلكه بالرسائل، وتخلى عن فكرة الكتابة، فتنازل عن مشــروع الشــاعر الشــاب الذي كانَه. حتى أننا لم نعرف الكثير عن فرانز أكسافير كابوس، وهو اسم )الشاعر الشاب(، بعد ذلك. أكثر ما نعرفه عنه أنه كان تلميذاً في الكلية العســكرية، التي سبق للشــاعر ريلكه الدراسة فيها، وتيسر للشاعر الشاب أن يكاتب الشاعر الشهير ريلكه. تلك كانت شهرته الشخصية أكثر من كونه شاعراً، وفي موقع «يوكيبيديا» إشــارة إلى انهماك الشــاعر الشــاب كابــوس بالعمل الصحافي كمحرر ورئيس تحرير لأكثر من جريدة، وأنه أصدر عدداً من الروايات، مــن بينها: «الناجون الأربعة عشــر » و»الســوط في الوجه » و»مارتينا والراقصون » و»الهــروب إلى الحــب». وقد عُرف كابــوس خصوصاً بوصفه كاتب ســيناريو، طوال النصف الأول من القرن العشرين.

غير أن الشاب كابوس لم يواصل كتابة بحمــاس كتابتــه للســيناري­و والرواية، التي يبدو أنها استغرقته فوجد نفسه في عالمها. وأخشــى أن البوح الفائض الذي طاشــت به رســائل ريلكه، دفع الشاعر الشاب إلى الفرار من رغبة كتابة الشعر، خصوصاً أننا لا نعرف شــيئاً عن أصول رســائله الخاصة إلى ريلكه. ثمة غياب غامض لرسائل الشــاب، دون أن نكون مجبرين على قبــول حجة عدم أهميتها الأدبية. أكثر من هذا، فإننا بالكاد نعثر على أي إشــارة مباشرة لحديث ريلكه عــن تجارب ونصوص مــا كان يكتبه كابوس من شــعر. حتى أننــا نريد أن نصــدّق بأن ثمة شاعراً شاباً كان.

فقط، فــي بداية رســالته الأولى، يشــير ريلكه إلى عدم تمكنه من مناقشــة أبيات كابوس، بل إن ريلكه، في إشارته تلك، يكاد ينفي الطابع الذاتي من أبيات الشاعر الشاب، ليواصل منخرطاً في البوح الوعظي العام، بعيداً عن الكتابة. أنا، لو كنت مكان الشــاعر الشاب، سوف لن أجرؤ على الكتابــة بعد ذلك. لقد كان يقــول له: «اذهبْ داخل نفســك. على الأقل، لن أكتب الشعر إلا إذا شعرت بأنني ســأموت إذا لم افعل ذلك، حسب نصيحة ريلكه. الرسالة الأولى فقط تخاطب شــاعراً كمشروع محتمل. ولا أعرف، لمــاذا يتوجب علينــا كقراء اعتبــار مواعظ ريلكه الإنســاني­ة العامة، تقتصر على مخاطبة )شــاعر شاب(. الشــاعر، لن يحتاج للنصائح، والشاب، سوف يشيخ سريعاً إن هو لم يكتب. ربما أبدع ريلكه في عرضه الفلســفي الإنســاني، الذي أصغى له الشــاب كابوس، واعتنى بنشــره كما ينبغــي. لكن يبــدو أن ذلك كله لم يشجع الشاب على الشعر، فوجد ذاته في كتابة أخرى.

في مقالة نــادرة بقلم بولا مارفيللي، قــام بترجمتها الصديق أمين صالح، نجدها تتطرق إلى كتاب الرســائل مستشهدةً بمقاطع طويلة من الرسائل، كما أشارت إلى أن للشاعر الشاب كتابات في الشعر والرواية والسيناريو، لكنها لا تشــير، على التعيين، لإحدى هذه الكتابات، مما لا يســاعد بحثي عن نصوص منشورة لكابوس. فأتمنى على من يعثر على نصوص شــعرية من تأليف الشــاب كابــوس إبلاغي بالأمر لكي ألاحظ معه الفائدة الأدبية التي استقاها من رسائل ريلكه إليه.

ومن يقرأ ريلكه، من يعرفه، يمكن أن يتفادى كتاب )الرسائل( دون أن يخسر شــيئاً. هذا مجــرد اقتراح، لكــي نعتبر النبيذ أجمل من الحقل.

 ??  ?? ا لشعر
ا لشعر
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom