Al-Quds Al-Arabi

ما هي خيارات لبنان وسط تدهور بلا ضوابط في سعر صرف الليرة وهل من أفق لوقف التدحرج السريع نحو الهاوية والدولة الفاشلة؟

-

■ بيــروت - أ ف ب:يئنّ لبنان منذ 16 شــهراً تحت وطأة أزمة اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه، تترافق مع شلل سياسي تام يعيق تشكيل حكومة، ويحدّ من قدرة الســلطة على تقــديم حد أدنى من الخدمات لمواطنين أضناهم تآكل أجورهم.

فما هي خيارات لبنان اليوم وســط تدهور بلا ضوابط في سعر صرف الليرة مقابل الدولار؟ وهل من أفق لوقف التدحرج السريع نحو الهاوية؟

في الرابع من أغسطس/آب الماضي شكّل انفجار آلاف الأطنان من نيتــرات الأمونيا، الموجودة منذ ست سنوات -آنذاك- في مخازن في مرفأ بيروت، ضربــة قاضية للاقتصــاد، بعد أشــهر من فرض قيود مصرفية مشــددة وبدء انهيار سعر الصرف وتخلّف لبنان عن سداد دَينه الخارجي.

وتفاقمت معالم الانهيار مع فرض تدابير إغلاق مشددة على مراحل، لمواجهة فيروس كورونا الذي حدّ أيضاً من وتيرة الاحتجاجات ودفع مؤسسات إلى إقفال أبوابها.

ووجد اللبنانيون أنفســهم أمام ارتفاع جنوني في أســعار الســلع والخدمات، بينمــا تراجعت قدراتهــم الشــرائية ولا تزال تتراجــع. وحاولت الســلطة احتواء الوضع عبر تدابيــر موضعية، كدعم سلع استهلاكية وملاحقة صرافين يتلاعبون بأسعهار الصرف.

لكــن تدهــور الليرة اســتمر، ليتجاوز ســعر الصرف أمــس الأول عتبة 15 ألفــاً مقابل الدولار، بينما السعر الرسمي مثبت على 1507 ليرات.

هذا النزيف مرشح للاســتمرا­ر. فمن شأن نفاد احتياطيات مصرف لبنان المركزي بالدولار، الذي يُســتخدم بشكل رئيســي لدعم اســتيراد القمح والمحروقات والأدوية، أن يجعل الدولة عاجزة عن توفير أبسط الخدمات.

ويؤخَذ على مصرف لبنان اســتمراره في طبع الليرات ممــا يفاقم، وفق محللين، التضخم المفرط أساســاً، عوضاً عن اتخاذ إجراءات حاسمة للجم التدهــور، وإعادة بناء ثقــة المودعين بالمصارف، وجــذب الأموال مــن الخــارج، وتوحيد ســعر الصرف.

ومنذ مطلع الشهر الحالي عادت الاحتجاجات، وقطــع متظاهرون لأيام طرقاً رئيســية في أنحاء البلاد، في ما تستمر التحركات بشكل شبه يومي، ولكن بصخب أقل.

ويوحــي أداء القوى السياســية أنّها منفصلة عن الواقع، رغــم ضغوط دولية قادتها فرنســا، خصوصــاً، لتشــكيل حكومــة. ويقــول مصدر دبلوماســي عربي في بيروت «تســمح المعطيات الراهنة بتشــكيل حكومة، لكن قياساً على سلوك القوى السياسية الموجودة وحساباتها التي يبدو أنها لم تتغيــر، فهناك تعطيل متبادل قد يســتمر لأشهر». ويضيف «قدمنا حلولاً كثيرة لكن الداخل لم يتلقفها .»

ويقول الباحث والأستاذ الجامعي ناصر ياسين «ثمة تأزم سياسي كبير، بينما نتجه إلى الهاوية. يبحــث كل فريق كيف سيســتفيد من مكتســبات معينة قبل الانهيار التام.»

يحصل ذلك فيما مؤسسات الدولة ومرافقها في «حالــة إنهاك تام» ما يجعلهــا «عاجزة عن القيام بأبســط واجباتها، مــن توفير الخدمات أمســية وصولاً إلى حفظ الأمن.»

وخلال الأســبوع الماضي، أثــارت تصريحات

وزراء فــي حكومة تصريــف الأعمــال انتقادات واســعة، إذ نبّــه وزير الداخلية محمــد فهمي في مقابلــة تلفزيونيــ­ة إلــى أن «الوضــع الأمني قد تلاشى». ومؤخراً حذّر وزير الطاقة، ريمون غجر، من أن البلاد تتجه نحو «العتمة الشاملة» في نهاية الشهر الحالي، ما لم تُقرّ سلفة لاستيراد «الفيول» وهو الوقود المســتعمل لتشــغيل محطات توليد الكهرباء.

وقبلها بأيام، أعلن وزير التربية طارق المجذوب إضــراب المدارس لأســبوع، احتجاجــاً على عدم تقديم الحكومة مساعدات مالية ولوجستية لها.

وترتفــع شــكوى القطاعــات كافــة: محطات الوقود، نقابات الأفران، المســتورد­ون والتجار.. كلهم يهــددون بوقــف العمل. وبعضهــم بالفعل أقفل أبوابه خــال اليومين الأخيريــن مع تدهور قيمــة الليرة. حتى أن قائــد الجيش جوزف عون انتقد، في خطوة نادرة «الخفض المستمر والمتكرر لميزانية» مؤسسته.

ويقول ياسين «لم نصل بعد إلى مفهوم +الدولة الفاشــلة+، بمعنى تفكّكها وانتهــاء أدوارها، لكنّ المؤكّــد أن قدرتها على الاســتمرا­ر تتراجع في كل يوم».

ويؤكد خبراء اقتصاديــو­ن أن إمكانية الإنقاذ ممكنة. لكن كل يوم يمرّ بمثابــة «فرصة ضائعة». ويقول ياســن «المشــكلة أننا لم نبــدأ بعد بخطة إنقاذ، بينما الانهيارات مستمرة بشكل متدرج».

وربط المجتمع الدولي تقديم أي دعم بتشــكيل حكومة مصغرة من اختصاصيين تنكَبّ على تطبيق إصلاحات بنيوية. لكنّ المساعدات الدولية وحدها لا تكفي نظراً لحجم الخسائر المالية المتراكمة.

ويوضح المصدر الدبلوماسـ­ـي أن «تشــكيل أي حكومة مخالفــة لمعايير المجتمع الدولــي )..( لن يحقق الإصلاح ولن يأتي بالدعم المالي المنشود».

وعلى رأس الإصلاحات المطلوبة: إصلاح قطاع الكهرباء المتداعــي، وتخفيض النفقــات العامة، وترشيد الدعم. ويتطلّب ذلك وفق الخبراء تحرير سعر الصرف.

وحــذّر «صندوق النقد الدولــي» لبنان من أنه لن يكون للانهيار ســقف دون إصلاحات هيكلية. ووصلــت مفاوضــات بــن الحكومــة اللبنانية والصندوق إلى طريق مســدود بسبب عجز لبنان عن الالتــزام بإصلاحــات لإقرار خطــة دعم من الصنــدوق، وعن تقديم أرقام ماليــة موحدة ذات مصداقية.

وتعليقاً على ارتفاع ســعر الليرة، يقول الخبير والمستشار المالي هنري شاول، الذي كان في عداد الوفد المفــاوض مع «صندوق النقــد الدولي» قبل اســتقالته «كان يمكن تجنّب ذلك كله، لكن البنوك ومصــرف لبنــان والمنظومة السياســية.. قرروا خلاف ذلك. كلهم مسؤولون عما جرى».

نتائج الأزمة بالأرقام

في مــا يأتي تداعيــات الانهيار غير المســبوق بالأرقام:

انهيار الليرة: فقدت الليرة نحو تســعين في المئة من قيمتها منذ بدء الأزمة الاقتصادية، فســعر الصرف الرســمي ما زال مثبتاً عنــد 1507 ليرات مقابل الدولار، فيما تخطى أمس الأول عتبة 15 ألفاً في السوق السوداء.

الفقــر: يعيش 55 في المئة من اللبنانيين، وفق الأمم المتحــدة، تحت خط الفقــر، أي على أقل من 3.84 دولار للشــخص في أمســالواح­د. وارتفعت نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مُدقِع إلى 23 في المئة، وفق المصدر ذاته.

وحسب استطلاع للرأي أجراه «برنامج الغذاء العالمي» والبنك الدولي نهاية العام الماضي، أقدمت 35 في المئة من الأســر الُمستجوبة على خفض عدد وجباتها اليومية.

التضخــم: في نهاية العــام 2020، بلغ معدل التضخم السنوي 145.8 في المئة، وفق إحصاءات رسمية.

وحســب «برنامج الغذاء العالمي» تجاوز معدل التضخم في أسعار الســلع الغذائية عتبة 400 في المئة.

وازداد ســعر ســلّة غذائيــة، تتضمن بشــكل رئيســي الأرز والبرغل والمعكرونة والزيت، ثلاثة أضعاف تقريباً منذ تفجر الأزمة في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وفق البرنامج.

وارتفع ســعر كيس الخبز بنسبة 91.5 في المئة منذ مايو/أيار 2020، جراء تغيير متتالي للســعر وإنقاص الوزن.

وبعدما كان كيس الخبز يباع بـ1500 ليرة، بات ثمنه أمس2500 ليرة.

وفي مطلع الشــهر الحالي كان سعر اللحوم قد ارتفع بنسبة 110 في المئة خلال عام، مقابل 65 في المئة للدجاج، وفق البنك الدولي.

متوســط الراتب: في صيف العام 2019، بلغ متوســط راتب الموظــف الشــهري 950 ألف ليرة

لبنانية، حســب إدارة الإحصاء المركــزي، أي ما كان يــوزاي وفق ســعر الصرف الرســمي آنذاك 627 دولاراً. أما أمســوعلى وقع تدهور الليرة بات يعادل أقل من ســتين دولاراً حسب أسعار السوق الســوداء. وبــات الحــد الأدنى للأجــور يعادل أمسنحو 45 دولاراً.

البطالــة: بلغ معدل البطالة نهاية العام 2020 نحو 39.5 وفق دراســة أجراهــا البنك الدولي و »برنامج الغذاء العالمي.

وبين العامين 2019 و2020، انخفضت الوظائف بدوام كامــل في قطــاع البناء على ســبيل المثال بنســبة أربعين في المئة. وشــهد قطــاع الفنادق والمطاعم تراجعاً بنســبة 31 في المئة، وفق بيانات الأمم المتحدة.

الركود: سجّلت الســلطات خلال العام 2020 انكماشاً في الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 25 في المئة، وفق بيانات «صندوق النقد الدولي.»

الدَين العــام: بلغ الدَين العــام للبلاد 95.6 مليــار دولار نهاية 2020، أي مــا يعادل 171.7 في المئة مــن الناتج الإجمالي المحلــي، وفق صندوق النقد.

ميــزان المدفوعــا­ت: في مؤشــر على تراجع التحويلات من الخارج، سـّـجل ميزان المدفوعات عجزاً قياســياً بقيمة 10.2 مليار دولار في الأشهر الـــ11 الأولى من عــام 2020، وفقــاً لإحصاءات للمصرف المركزي نقلها تقرير نشره «بنك عودة.»

احتياطي العمــات الأجنبيــة: حالياً يبلغ احتياطــي المصرف المركــزي 17.5 مليــار دولار، وفق موقع المصرف الالكترونـ­ـي، رغم أن محللين

يُرجِّحون أن يكون الرقم أدنى من ذلك.

وفي العام الماضــي، بلغ الاحتياطي 30.3 مليار دولار، وفقــاً لتقريــر صــدر عــن «مجموعة بنك بيبلوس» يربط التراجع بالإنفاق على دعم السلع المستوردة بشكل أساسي بينها الوقود والقمح.

دعم الفقــراء: بلغت قيمة قــرض من البنك الدولي صادق عليه البرلمان الأسبوع الماضي 246 مليون دولار، وهو مخصص لدعم 147 ألف عائلة )نحو 786 ألف لبناني( من الأسر الأكثر فقراً. ومن المقرر أن تحصل كل عائلة على مبلغ مئتي ألف ليرة لبنانية، إضافة إلى 100 ألف ليرة عن كل فرد.

الكهربــاء: تغطي «مؤسســة كهرباء لبنان» 63 في المئــة من احتياجات البلاد، وفقاً لدراســة نشرتها الجامعة الأمريكية في بيروت على موقعها الإلكتروني في ديســمب/كانون الأول. وازدادت ســاعات التقنين مؤخراً في بلد تتراوح فيه فترة انقطاع الكهرباء من ثلاث إلى 12 ساعة.

ويشــكل هــذا القطــاع أبــرز مكامــن الهدر والصفقات، وقد كلّف خزينــة الدولة أكثر من 40 مليار دولار منذ العــام 1992، أي ما يعادل 40 في المئة من الدَين العام.

انفجار مرفأ بيروت: بعد انفجار المرفأ المروّع في الرابع من أغســطس/آب الماضــي، قدّر البنك الدولي حجم الأضرار والخسائر الاقتصادية بين 6.7 و8.1 مليار دولار.

اللاجئون: يســتضيف لبنــان، وفق تقدير الســلطات، 1.5 مليون لاجئ سوري، نحو مليون منهم مســجلون لدى الأمم المتحدة. ويعيش نحو 91 في المئة من العائلات السورية تحت خط الفقر،

وفق الأمم المتحدة، التي تقول أيضاً أن تســعة من كل عشرة سوريين يعانون من فقر مُدقِع.

كما يســتضيف لبنــان نحــو 180 ألف لاجئ فلسطيني، وفق بيانات رسمية، رغم أن تقديرات أخرى ترّجح أن يكون العدد أكبر بكثير ويصل إلى حدود 500 ألف.

وحسب اســتطلاع أجرته وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيي­ن «أونروا» في مايو/أيار الماضي، خســر ثمانون في المئة من المستجوبين وظائفهم أو عانوا من تراجع دخلهم. ويعيش 87 في المئة من إجمالي 27 ألف فلسطيني جاؤوا من ســوريا إثر اندلاع النــزاع تحت خط الفقر.

انهيار الليرة يجدد أزمة الوقود

تجددت أزمة الوقود ومشــتقاته في الســوق المحلية داخل لبنــان، بالتزامن مع تدهور حاد في سعر صرف الليرة أمام الدولار في السوق الموازية )السوداء(.

وأغلقــت مجموعة من المحطــات أبوابها أمس الأربعاء لعدم توفر الوقود بسبب تغيرات أسعار صرف الدولار، وبالتالي صعوبة الاســتيرا­د وفق الأسعار الحالية.

في المقابل، امتنعت مجموعة ثانية من المحطات عن بيع المحروقات بالأســعار الحالية، مع هبوط الليرة إلى 15 ألفا أمام الدولار، مقابل 10 آلاف قبل أسبوع.

وتقــوم مجموعــة ثالثــة من المحطــات بفتح أبوابها أمام الزبائن، لكن ضمن تقنين بيع الوقود للمســتهلك­ين وبأســعار مرتفعة تصل إلى 20 ألف ليرة )13 دولارا وفق الســعر الرســمي( للمركبة الواحدة.

وأمام هبوط أســعار الصرف وتقنين البيع أو الامتنــاع عنه، لحين اســتقرار ســعر الدولار في السوق الســوداء، شــهدت المحطات التي فتحت أبوابها، تدافعــا من المواطنين للتــزود بالوقود، خشية انقطاعه من الأسواق.

وفي مدينة عاليــة )جبل لبنان( أكد ميشــال حــداد، وهو صاحب محطة وقــود، إنه أقفل باب محطته «بســبب التهافت الحاصل على الشــراء ومشاحنات مع المستهلكين.. نتوقع ارتفاع أسعار البنزين والسولار، بفعل هبوط الليرة.»

أمّا في بعلبك )وســط( فقد أقفلت أمس غالبية محطات المحروقــا­ت، ورفعت خراطيــم التعبئة كإشارة منها لعدم توفر مادتي البنزين والسولار فيها.

وقال ممثــل موزعــي المحروقات فــي لبنان، فادي أبو شقرا، أن ســعر صفيحة البنزين صعد بمتوسط 4 آلاف ليرة للمستهلك، مشيرا أن شحنة من الوقود ستصل المحطات خلال وقت لاحق.

وفي تصريحات منفصلة لأبو شــقرا، للوكالة الوطنيــة للإعلام أمس، قــال أن «هنــاك تأخير في إصدار جدول أســعار الوقود اليوم، بســبب الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار.»

وأشــار إلى أنه في غضون أيام قليلة ماضية، صعد ســعر صفيحة البنزين )95 أوكتان( ســعة 20 ليتراً بنســبة 11.8 في المئة إلى 38.9 ألف ليرة (25.7 دولارا وفق الســعر الرسمي( من 34.8 ألفا (23 دولارا(.

 ??  ?? محطة وقود مغلقة وسط بيروت أمس
محطة وقود مغلقة وسط بيروت أمس

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom