Al-Quds Al-Arabi

تحولات في وضع الدول

- ٭ استاذ العلوم السياسية / الكويت

■ نعيش في عالم يسوده القلق والخوف من جراء تردي حالة الــدول وأوضاعها، هذا هــو حال العالم العربي في وضعه الإقليمــي الراهن، لكن الأوروبيين أيضــاً قلقــون وكذلــك الأمريكيون قلقون بســبب الاقتصاد وكورونا وبســبب نمو اليمين المتطرف. في عصرنــا الراهن تبرز قوى جديدة لفئات تســكن قاع المجتمعات وتشــعر بالتهميش والعزلة. هذه الفئات مســلحة بالعنف وبشــعارات الغضب تجاه النخب. فإن كان عدم الإســتقرا­ر ممكنا في الولايات المتحدة فهو حتما ممكن في عوالم كثيرة بســبب تغيرات في حالة الدول والاقتصاد.

من الواضح أن السياســة لم تعد كالسابق عندما كانــت الســلطة السياســية تملــك مكونــات القوة والســلطة والتأثير. في عصرنا الجديد نكتشــف أن الدولة في أوروبا كما في الشرق العربي فقدت، بسبب نزيف اجتماعي وسياســي واقتصادي مســتمر منذ عدة عقــود، الكثير من مكونات التأثيــر التي ميزتها في السابق. كانت الســلطة السياسية تجمع ببراعة ووضوح بــن القــوة ومكوناتها )تنفيــذاً وتحقيقاً وقــدرات( والسياســة بصفتها القــدرة على تنظيم الأولويات وبنــاء الإجماع بهدف التنفيذ. هذه الحالة أنتجت قــادة مؤثرين في الشــرق الأوســط كما في العالم )الملك فيصل، الرئيــس عبد الناصر، أيزنهاور وروزفلت، تشرشل وغيرهم(.

لقد تغيــر العالم بصــورة أساســية، فقد ضعفت الدولة وقيمتها في العالم بنسب متفاوتة في ظل ثورة المعلومات الواســعة النطاق، وفي ظــل «ويكيلكس» وجوليان أســانج والربيع العربي والخصخصة في العالم والشــركات العابرة للقارات وتنظيم «الدولة الإســامية» وقبله «القاعدة» وغيرهــا من الظواهر. إن انتشار المنظمات المســلحة خارج الدول في العالم كلــه )دويلات المخــدرات مثلاً في المكســيك وأمريكا اللاتينية( كما وفي الشــرق الأوســط كما هو الحال في لبنان واليمن وســوريا والعــراق وليبيا يرمز لما هو حاصل اليوم ولما هو قادم في المســتقبل المنظور. ربمــا تكــون انتخابات البلديــة في المســتقبل أكثر أهمية من الانتخابات الوطنية فــي الكثير من الدول الديمقراطي­ة. هــذه الأبعاد الجديــدة، والقادم أكبر، تثبت طبيعة الفصــل بين مقومات القــوة ومقومات السياسة في واقع الدولة. كل ما وقع في العقد الأخير أفقد الدولة الكثير من قوتهــا ومكانتها وقدرتها على التأثير.

إن معظــم الاقتصــاد التقليدي كمــا نعرفه خرج عــن إدارة الدولة فــي معظم دول العالــم، وحيث ما زالت الدولــة تدير الاقتصاد نجدهــا مثقلة بالديون والصعوبات. إن الدولة التي تتراجع أمام قوى ناشئة في المجتمــع والأجهزة غير الحكوميــة والرأي العام تترك فراغاً كبيراً في العالم.

أمــا الدولة في العالم العربي فهــي في مأزق أعمق مــن ذلك الذي تمر به أوروبا، الدولــة العربية لم تمر بالمرحلــة الديمقراطي­ة، ولم تطور البيئــة القانونية والسياســي­ة أو حتــى التعليميــ­ة التي تســمح لها بالتعامــل مــع المســتجدا­ت بمرونــة. إن الدولة في العالم العربي مؤسسة ضخمة تسيطر على الاقتصاد والمجتمع المدني والجامع والشارع والبلدية والأقاليم وكل نشــاط ممكــن. وهــذا جعلها تدمر التنافســي­ة والمهنية فــي الاقتصاد كما في السياســة، وهذا يدفع لانتشار الفساد. لقد تحولت ممارسات الدولة العربية إلى عقبة أمام نشوء الطبقات الوسطى ذات التأثير. فمن خلال القوة الخشــنة التي هي أســلوب الدولة العربية ســيطر الأمن والجيش على الشأن الداخلي، كما وعلت مكانة السجون للمخالفين وسياط القضاء للمتمردين. القوة الخشــنة التي ســعت إليها الدولة العربية ساهمت مؤخراً في ســقوط الكثير من الدول العربية في واقع الدولة الفاشلة.

في الســابق كانت الدولة العربيــة في مجتمعاتنا تحتكــر المعرفة والإعــام، لكن هذا الاحتكار ســقط بصورة كبيرة، فالدولة الآن لــم تعد تحتكر المعرفة، علــى رغــم أنها تأخــذ قــرارات تتعلق بمنــع كتاب وتجريم رأي، ولديها تلفــزة وطنية، لكنها غير قادرة على التأثير في صياغــة الرأي إلا في حدود قليلة. إن الاتجاه في المراحل المقبلة هو إلى مزيد من تأثر الناس

والأفراد بما هو قادم من خارج الحدود، فقــدرة الدولة على وضع ســياج حول شــعبها وحدودها لم تعــد ممكنة كما أن قدرتها على احتكار الواقع الاجتماعي والسياسي لم تعد ممكنة أيضاً. وتتنقل التجارب والأفكار سواء كانت ثورية أم راديكالية، إسلامية أم ديمقراطية عبر الحدود. ستبقى الدول تصنع الكثير من القرارات لكن مع الوقت ســتبدو تلك القرارات إعلانات لا تنجح في تغيير الواقع والتأثير على مجريات الأمور.

الدولة العربيــة ضحية عالم لــم تتأقلم معه ولم تخطط لــه. وبينما الدولة ضرورة إنســانية في كل العالم، إلا أنها في العالم العربي في مأزق يزداد جدية، فالخرائط العربية الصامدة حتــى اليوم بإمكانها أن تصمــد بالفعل عندمــا تبرز في الإقليــم تلك الحاجة للتوقف عن الإقصاء والانتهــا­ك وإحتكار الاقتصاد. وبإمكان النظام العربي أن يتبع سياســة أكثر تركيزاً على حوار مجتمعي تشــارك فيــه كل القوى الفاعلة ســواء كانت في الســجون العربية أم خارجها أم في المنافي أو في الحكــم. الأوطان في حاجة للمجتمعات كما والأفراد، ومن دون المجتمعات وممثليها ستستمر الدولة الفاشلة بالزحف على أغلب الأمكنة العربية.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom