Al-Quds Al-Arabi

لماذا لا يحتج الفلسطينيو­ن ضد سياسة الأبرتهايد التي تنهجها إسرائيل ضدهم؟

- بقلم: رائف زريق

■ أمر فاجأني قليلاً أثناء زيارتي لجنوب إفريقيا، وهو الخطاب الذي اســتخدمه آباء الأبرتهايد هناك. وقفتُ في متحف الأبرتهايد في جوهانســبو­رغ، وأصغيت لخطابات من الخمسينيات والستينيات للزعماء البيض في جنوب إفريقيا الذين شكلوا دولة الأبرتهايد وسياستها. من يسمع هذه الخطابات سيكتشف أن استخدامها أشبه بدرس عن تعدد الثقافات.

وكأن كل ما فعله الزعماء البيض في تلك السنوات كان التطرق بشــكل جدي إلى الفروق الثقافية. كل ما دعوا له هو أن الله خلق الناس متســاوين، ولكــن مختلفين، لكل عرق ثقافــة خاصة به ونهج خاص لتجســيد الإمكانيات الكامنــة لديه. ثقافــة البيض تختلف عن ثقافة الســود، وثقافة قبيلة معينة تختلف عن أخرى. لذلك، يجب على كل قبيلة العيش وحدها وتطبــق ثقافتها الخاصة وحتى لغة قبيلتها وتراثها الخاص.

كانــت هذه هي طريقة ســجن كل جماعة في عالمها. في الوقت الــذي كان فيــه كل ذلك ممزوجاً بخطــاب متعدد الثقافات. وعندما رفض المؤتمر الإفريقي برئاســة نلسون مانديلا، التقســيم القبلــي وصمم على شــعار أن جنوب إفريقيا يعــود لكل الجنوب إفريقيين، دون تمييز في اللون أو الانتماء القبلي، بدأ النضال ضد الأبرتهايد فعلياً.

الأبرتهايد نظام للفصل، لكنه لا يأخذ شــكله الحقيقي إلا عندمــا تكون الجماعــة المعزولة غير مســتعدة لقبول الفصل. وهذا يحــدث عندما تؤيد الجماعة المعزولة خطاباً مدنياً للمســاواة، وتعرض الدولة كوحدة واحدة، وحدة سياســية – قانونية واحدة، وترفــض الفصل في داخل الدولة.

وعي الأبرتهايد يقتضي الوعي بــأن تكون مع وتكون منفصلاً في الوقت نفســه. فصل بدون وعي لكوننا جزءاً من مجموع سياسي – قانوني واحد لا يخلق وعي أبرتهايد على الإطلاق. الإسبان مفصولون عن الفرنسيين، لكنهم لا يشعرون بأنهم تحت نظام أبرتهايد فرنسي.

ليس كل فصل ينتج عنه وعي منفصل، لكن الفصل داخل الوحدة نفسها نوع من الاســتثنا­ء لما كان من المفروض أن يكون جزءاً من المجموع. الوعي العام، الـ «معا» هو شــرط لوعي الإقصاء والتمييز والنبذ.

لهذا الســبب، يمكن فهم ســبب تأخر إدراك الأبرتهايد لدى الفلســطين­يين في المناطق، ولماذا لــم تقم هناك حركة ضــد الأبرتهايد. وكذلك الإســرائي­لي العاديأيضاً، لا يملك وعياً كهذا. ليس للفلســطين­يين واليهود الإســرائي­ليوي وعي مشترك لإطار سياســي واحد، ومجتمع واحد، الذي تتم داخله عملية الفصل.

ولكن السبب الرئيســي بأن الفلسطينيي­ن لا يتحدثون بلغة الأبرتهايد، وأن الإسرائيلي­ين لا يفكرون بهذه المفاهيم، هو أن الفلســطين­يين أنفسهم في المناطق ما زالوا يطالبون بالفصل، على صورة دولة فلســطينية وعلى صورة حق تقرير المصير. الفصل ليس مطلباً إسرائيلياً فحسب بل هو أيضاً مطلب فلسطيني. لهذا السبب، لا يشعر الإسرائيلي­ين بالمسؤولية تجاه الفلسطينيي­ن في المناطق، ويعتبرون هذا الوضع مؤقتاً، ويعتقدون أن الفلسطينيي­ن في الطريق إلى دولة مستقلة خاصة بهم.

إن النضال ضد الأبرتهايد يقتضي خيالاً سياسياً يركز على الوســط، وداخل دولة واحــدة، ويصمم على خطاب حقــوق ويؤكد على حقــوق الفرد. هذا النضــال يقتضي أيضاً نوعاً من الخيال السياسي الذي يحاول تشكيل نوع

من «نحن» سياســي. ولأنه كذلك، يقتضي التفكير بالآخر وبالحوار معه. فبمســاعدة الفلســطين­يين وبمســاعدة الســلطة الفلســطين­ية التي تخلق صورة لدولة مع إعلام وســفارات ونشــيد وطني وحق تقرير المصيــر، لا يفهم الخيال السياسي أن الأمر يتعلق بأبرتهايد.

القصــة لا تتوقف هنــا. هذا يحــدث أيضاً فــي داخل إســرائيل. لذلك، يجــب فهم مجريات الحركة الإســامية التي نقشــت على رايتها مزيجاً مــن المحافظة الاجتماعية والثقافيــ­ة من جهــة، والمصالحــ­ة التصالحيــ­ة مع دولة إســرائيل بصورة غير مسبوقة من الجهة الأخرى. الحركة الإسلامية تريد التوصل إلى تسوية مع الدولة، وبحسبها لن تتدخــل الحركة في الشــؤون السياســية لليهود في إســرائيل خصوصاً في المحاكم أو المستوطنات أو المسألة الفلســطين­ية أو في حريــة الصحافة وحقــوق المواطن. في المقابل، تريد لنفســها حكماً ذاتياً ثقافيــاً. لا تتدخلوا فيما يحدث عندنا من ناحيــة ثقافية، ونحن لا نتدخل في سياستكم. وربما أكثر من ذلك: سنهتم بكم وسنوفر هدوءاً مصطنعاً في السياسة وسنسيطر على مجتمعنا.

وكأن الحركة الإســامية أدركت منطــق الرعايا )أهل الذمة بالعربية(. هم يفهمون أنهم لن يكونوا متساوين، بل ويســلمون بذلك. كل ما يريدونه هو معاملة غير عنيفة من قبل الحكم، ودرجة من الشــفقة وقدراً من النزاهة. انسوا دولة كل مواطنيها، أو النقاش حول طابع الدولة أو خطاب الحقوق.

فــي المقابل، تدفــع الحركة الإســامية قدمــاً، بحزم وبصورة ثابتة، بشــعارات تطالب بالحفــاظ على الدين والثقافة وتعرض القائمة علــى أنها قائمة عربية خالصة. هذا خطاب هويات في أفضل الحالات، الذي يقلل من أهمية السياســة ويعظم الثقافة، ويهين المواطنة ويمجد الهوية. أنتم، اليهود، وحدكم هناك ونحن هنا. اتركونا وحدنا.

قانون القومية، القانون الذي يميز ويفصل وينص على التفــوق الواضح لليهود برائحــة الأبرتهايد، يحظى الآن بمواز عربي لــه. لم يعد الفصل مطلباً للدولة اليهودية، بل هو مطلب أصيل للجمهور العربي )جزء منه( أنتم وحدكم

ونحن وحدنا. لن تنمــو حركة مناوئة للأبرتهايد مع وعي لعالــم يتكون من قبائــل مختلفة. هذه الحملة وسياســة الهويات من هــذا النوع تخفي طابــع الأبرتهايد للقانون وتبث وكأن الأمور تسير على ما يرام. وهذه هدية بالمجان لسياسة الفصل الإسرائيلي­ة.

هآرتس 2021/3/18

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom