Al-Quds Al-Arabi

الجزائر: مشقّة التحرر من الثقافة المحلية

-

إطلاق اســم على مؤسســة ثقافيــة، حديثة الإنشاء، في بلد مثل الجزائر ليست مهمة سهلة، بل قد تتحول إلى قضية سياسية شائكة، أو تثير تنافراً بين النــاس، وقد تنجر عليها خلافات، هي مســألة يتدخل فيهــا الجميع، وينخرط فيهــا المثقف وغير المثقف في إبداء رأيه، موافقاً أو معترضاً، كما حصل بداية هذا العام، عندما أطلقت سلطات مدينة باتنة )شرق البلاد( اسم الملحن تيســير عقلة على معهد للموسيقى.

كان في الإمكان أن يمر هذا الحدث مروراً سلساً، لاســيما أن الشــخص الذي علا اســمه هذا المعهد، موســيقار، لا يختلف اثنان في أفضليته الفنية ولا في رصيده الطويل، كما إنه كان قائد جوقة الإذاعة الوطنية في ســبعينيات القرن الماضي، سبق له أن لحن عدداً من الأناشــيد الوطنية، التي لا تزال تبث في أعياد الثورة، كما إن تيسير عقلة اختار الجزائر موطناً له، بعد اســتقلاله­ا، وأوصى أن يُدفن فيها، وقد لاقى جنازة رســمية، ورافق جثمانه إلى مثواه الأخير قبل خمس ســنوات عدد مــن كبــار مســؤولي الدولة، إقراراً واحتراماً لسيرته.

لكــن الأمور لم تســر على النحو الذي يجب، فمباشرة بعد إماطة الستار عن تسمية ذلك المعهد، حتى اشــتعلت حــرب كلامية، فــي مواقع التواصــل الاجتماعــ­ي، وتعإلى الهمــز والغمز هنا وهنــاك، ووصلــت حمى الغضب الشــعبي مكاتب المسؤولين، فقد اعترض فنانــو مدينــة باتنــة وبعض ســاكنتها على ترســيم اســم تيسير عقلــة، وحجتهــم أنه ليــس جزائرياً وليس من فنانــي تلك المدينة، كما لو أن الهوية الجزائرية تحكمها وثيقة الجنسية، وليس الانتمــاء الروحي للبلــد وخدمته، وكم من شــخصية تاريخية أو نضالية أجنبية وقفت جنب الجزائريين، لكن لا يزال ينظر إليهم كما لو أنهم غير جزائريين، هكذا فإن الجزائري بــات مقيداً بوثيقة لا بجدوى الخدمــات والفضائل التــي يؤديها، هل نختصر علاقة الجزائري ببلــده في ورقة؟ لم تجد وزارة الثقافــة بداً ســوى الامتثــال لذلك الضغط المباغت، وســارعت إلى تغيير تســمية ذلك المعهد، وبدلت اســمه باســم الفنان عيســى جرموني، مع أن شــهرة عيســى جرموني تطوف أرجاء الجزائر بأكملهــا ولا تختصر في لافتــة معدنية فوق مدخل معهد للموسيقى.

هذه الواقعة وعلــى ما تبدو أنهــا واقعة عابرة فإنهــا تفضح منطقا جزائرياً خالصــاً، في انحيازه إلــى محليته، وقلة تقبله للأجنبــي وكل ما يختلف عنه، هذا المنطق الــذي يرى أن الجزائر للجزائريين لا غيرهــم، كما لو أنها جزيــرة معزولة عن إقليمها، متناسين أن تاريخها شــارك فيه وصنعه أيضاً

عــرب وإســبان

وإيطاليون وفرنســيون، وآخرون من المستعمرات القديمــة، يفصح عــن انفصام عندمــا يتعلق الأمر بتســمية مبانٍ أو شــوارع بأســماء جزائريين في الخــارج، يرون فيــه انتصــاراً رمزياً لهــم، بينما يرفضون انتصار الآخر في مجاورتهم بلدهم. قبل أيام قليلة كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عــن قائمة تضمنت 318 شــخصية ثقافية وتاريخية، من فرنســيين وغير الفرنسيين، أوصى عُمــد البلديات الفرنســية اعتمادها مســتقبلاً في تسمية المؤسســات والشوارع، وقد احتوت القائمة ـ كما كان منتظراً ـ أســماء كتاب وفنانين جزائريين، إقراراً من الفرنســيي­ن بفضلهم، مــن بينهم: محمد أركون، ســليمان عازم، محيي الدين بشــطارزي، مالك شبل، إيدير، مولود فرعون، نبيل فارس، وردة الجزائرية، الشيخة الريميتي، كاتب ياسين، محمد ديب، محمد زينات، آســيا جبــار وغيرهم. بمجرد الإفصاح عن تلك القائمة، وما جاء فيها من أســماء كتاب وفنانــن جزائريين، حتــى قابلتها تهليلات في الضفة الأخرى من المتوســط، نشطت الصحافة المحلية في الجزائر في الإشادة بهذه الخطوة، منهم من اعتبرها انتصاراً على الُمســتعمر القديم، الذي بات يعتــز بفضل الجزائريين عليه، مــع العلم أننا لا نجد اســما فرنســياً على نواصي الشوارع أو يعتلي المؤسسات في الجزائر، عدا حفنة ضئيلة جداً منهم، ممن شاركوا في حرب التحرير. إزاء هذا الانفصام من رفض تســمية المنشــآت بأسماء أجانب في الجزائر، والفرح بأن يُطلق اســم جزائري في الخــارج، يضطرنا السؤال: ماذا حصل كي تصير الساحة الثقافية في الجزائر منغلقة على نفسها إلى هذه الدرجة؟ لماذا لم تنخرط بعد في نظرة كونية، ولا تزال مكتفية بمحليتها؟ كان يمكن لقضية معهد الموســيقى في باتنة، أن تكون نقطة مضيئة، وتســتحق الإشــادة، لــو أن طائفــة المثقفــن هناك دافعوا عن خيار إطلاق اســم فنان على المؤسســة، بغــض النظر عن نســبه أو أصله، وأن يؤسســوا تقليدا في الدفاع عن تســمية المباني بأسماء فنانين أو مثقفــن، لكنها ظلت قضيــة داخلية، تخص تلك المدينــة وحدها، تفيــض بالأنانية، لأننــا بالمقابل، من خلال مسح خريطة المنشــآت الثقافية والعلمية في البلد، ســوف نجد أن غالبيتها تحمل مســميات بعيدة كل البعد عن الثقافة، فمن بين العشــرات من الجامعــات التي تزخر بها الجزائر من النادر ما نجد جامعة تحمل اسم مثقف، إلا ما ندر منها، مثل جامعة ابن خلدون، الجيلالي اليابس، أو أبو القاســم عبد الله، بينما بقية الجامعــات الأخرى فإنها إما تحمل اسم شخصية سياســية أو حربية، مثلا كل رؤساء الجزائر السابقين الذين وافتهم المنية صارت ترصع أســماؤهم جامعــات أو مراكــز جامعيــة، في هذه الفوضى من التســميات، لا أحد انشغل، أو تساءل ما هي حجة إطلاق اســم شخصية سياسية خالصة على مؤسسة علمية ثقافية؟

جرت العادة أن أي مؤسســة جديــدة )على قلة المؤسســات الجديدة في الجزائر اليوم( إنما يطلق عليه اسم شخصية سياسية أو مستوحاة من حرب التحرير، من دون أن يعترض أحد على ذلك الخيار، يستحيل أن نجد أي مبنى في الجزائر بأكملها باسم أجنبي )عدا أسماء الصحابة أو التابعين أو ندرة من أجانب شاركوا في حرب التحرير حصراً(، لم نصل بعد إلى مرحلة تصير فيه الجزائر أكثر انفتاحاً على جوارها والعالم، لا تــزال ثقافة مقيدة بحبل طويل يعيدها كل مرة إلــى محليتها، ويمنع عنها الانعتاق من الانغلاق الذي يغشاها منذ عقود.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom