Al-Quds Al-Arabi

سائق التاكسي والنادلة وصاحب المخبز وحّدتهم محنة الوباء وتداعيات الأزمة

- الرباط ـ «القدس العربي» من عبد العزيز بنعبو:

بعــد مــرور العــام الأول على ظهــور فيروس كورونا المســتجد، ما زالت تداعيات الأزمة ترخي بظلالهــا على جميع مناحي الحياة فــي العالم، لم يســلم من ذلك أي قطاع، باستثناء عالم الإنترنيت الذي ضاعف أصحابه أرباحهم، على اعتبار اعتماد البشــرية على التواصل عن بعد، ما مكن الشركات العملاقة في المجال من تحقيق نســبة أرباح كبيرة تحدّت "كوفيد" وتداعياته.

في المقابــل، نجد العديد من القطاعات شــهدت تراجعاً مهولاً، أدى إلى أزمات متفاقمة، تراكمت عبر الشهور الماضية التي كان فيها الحجر الصحي سيد الموقف وصاحب الرأي الأول والأخير.

المغرب كباقي دول المعمور، أصيبت فيه قطاعات تشــغّل اليد العاملــة وتضمن لها دخلاً يقيها شــر الحاجة والفقــر، بضربات متتالية لم تشــف منها لحد الساعة. ويكفي أن يستقل العابر لسيارة أجرة "تاكسي"، أو أن يجلس في مقهى أو يشتري خبزة، بل حتى عندما يقصد طبيب الأسنان أو يتوجه إلى أقرب بائع خضار وفواكه، ســيجد أن ظلالاً قاتمة تخيم علــى مُحيّــا كل من يصادفهــم، تلك الظلال التي رســمت حفراً من الهم علــى الوجوه وحمّلت النفس وزر أزمة تجاوزت حدود الصحة إلى ما هو اجتماعي.

تداعيات "كوفيــد 19" لم تكن متوقعة، كما يؤكد مراقبون، أصابت الناس في يومياتهم ومعيشــهم، العالــم أصبح عبارة عــن لحظة فــزع متواصلة، وصار يكتفي بما تيســر من أجــل تدبير حياته، لم يعد الاحتكاك ممكناً ولا التواصل المباشر متاحاً. كل شــيء عن بعد، لكن هناك وظائف وأعمالاً لا يمكن إنجازها عن بعد.

سائق "التاكسي" عليه أن يســتقبل زبائنه في مكان ضيق هو الســيارة، وعليه أن يتسلم النقود منهم، كما الحال بالنســبة لنادل المقهى الذي يحمل فنجان القهوة إلى طالبــه، وبائع الخضر بدوره، وكل هــذه الوظائف تحتــاج إلى اللقاء المباشــر، وهو ما صار مســتحيلاً في فتــرة الحجر الصحي، وإلى يومنا هذا ما يزال التوجس هو الآمر الناهي، والحيطة والحذر من الإصابة بالعدوى يسيطران على كل من يغادر منزله لقضاء غرض.

السيد كورونا لم يكتف بالأب فقط، بل تمكن من التناسل وعزز عائلته بســالات جديدة متحورة صعّبــت الموقف، وجعلــت الأمل في العــودة إلى الحياة الطبيعية يبتعد إلى حين.

اليــوم وعلى بعد ســنة كاملة، ودخــول العام الثانــي، تتواصــل حملة التطعيم ضــد الفيروس في المغرب بشــكل ســلس، وحققت نسبة مهمة من المســتفيد­ين والمســتفي­دات من اللقاح، لكن عجلة سائق "التاكسي" لم تســتعد بعدُ دورتها العادية، فتراكمات الشهور السابقة جعلت من العمل اليومي وفــي حدود توقيــت معين في ظل حظــر التجوال الليلي، محاولة لتدارك ما فات وسداد ما تأخر، أما المستقبل فبيد الله.

ترقب وخوف

عبــد العالــي مهنــي ســيارة الأجــرة، يقود "التاكســي" عبر شــوارع وأحياء المدينة، يعيش لحظته في ترقب مســتمر، والخوف يكتنفه من كل جانب، الخوف من الوباء والخوف من عدم الوفاء بالتزاماته، فهناك في البيت زوجة وأبناء وفواتير يجب أن تسدد وكراء، كل هذا الوزن الثقيل يحمله معه هذا الرجل صباحاً ويعود به إلى منزله مساء.

يحكــي عبــد العالــي يومياتــه بعــد تخفيف الإجراءات الإحترازية، ويقــول إنه لم يتمكن بعد من تجاوز المحنة المادية التي يعيشــها، خاصة بعد تراكم شهور من التوقف النهائي، ويؤكد أنه يلزمه الكثير مــن الوقت لأجل تدارك الأمر وســد الثغرة المالية التي تعاني منها ميزانيته الخاصة.

ويســتدرك عبد العالي قائلاً: "الحمد لله، اليوم أفضل من أيام الحجر الصحي، على الأقل أســتطيع أن أوفر ما تيســر فــي انتظار عــودة الحياة إلى طبيعتها". سائق "التاكسي" يقودك إلى أقرب مقهى تريد أن تسترخي فيه، وتشرب فنجان قهوة يعيد المــزاج إلى توازنه. أول ما يصادفك تلك الكراســي المتباعدة والكمامــا­ت الموضوعة علــى الطاولات وإلــى جانبها هواتــف ذكية، تترقــب النادلة إلى أن تأتي خفيفة وبســرعة، فالمكان غير مكتظ على غير العــادة، وكورونا فرض قوانينه على الجميع، تطلب منهــا فنجانــك وتمضــي دون تأخير، بعد دقائق معدودة يكون المطلوب بين يديك، تحس أن ابتسامتها عريضة لكنها فاترة من تحت الكمامة.

بحســبة بســيطة، عدد الزبائن الذي قلّ يعني أقل عــدد من الإكراميــ­ات، أما الراتــب فهو بالكاد يكفــي اليوميات، وهنا تشــير النادلة لبنى إلى أن الإكراميات كانت تشكل سنداً لها وتعزز من دخلها الشــهري، وتمكنها من تجاوز العديد من العثرات المعيشية، لكنها تؤكد أن هذه الدراهم اليوم صارت معدودة جداً بسبب قلة رواد المقهى.

حبيسة الانتظار

لبنى، فــي منتصف عقدها الثاني، ليســت متزوجة لكنها تعتمد على نفســها في ما يخص احتياجاتها الخاصة كفتــاة، وتقول إن البقية يتكفل بــه والدها الذي يعيل الأســرة دون أن يشتكي من ذلك.

وتــروي لبنى نادلــة مقهى الحــي، بعض الطرائــف التي كان فيــروس كورونا مبدعها، وكيف صارت العطســة ترعب زبائــن المقهى وحتى "الكحة" تجعل الكل يلتفت إلى مصدرها.

لكن الأصعب بالنسبة للبنى هي تلك الشهور الطويلــة التي مــرت منها عندمــا أغلق المقهى أبوابه في فترة الحجر الصحي، شــهور صعبة ومرهقة للغاية جعلتها حبيسة الانتظار وحدّت من طلباتها، فاكتفت بما هو كائن بدل الطمع في ما هو غير كائن وغير ممكن في تلك الفترة.

الحقيقة أن ملامح فيروس كورونا تتشــابه على محيــا كل الناس، مهما اختلفت الأســماء والمهــن والوظائف، فــإن العنــوان واحد هو القلق والخوف والترقب، في ظل توقف كان في البداية كلياً، فصار بعد ذلك جزئياً.

وتقــول لبنــى فــي تصريحهــا لـ"القدس العربــي"، إن المقهــى يحتــاج إلــى الحركــة والاكتظاظ والمرح والفرجة على التلفاز لمتابعة مباريات كرة القدم، ويحتاج أكثر إلى الحميمية وهي مفتقدة بسبب الأزمة الصحية.

وأكدت لبنى أن الحياة فــي المقهى لن تعود إلى ســابق عهدهــا إلا عندما ينتهــي فيروس كورونا ويغادر يومياتنا، وتعود تلك المساءات الدافئة وتجمع الأصدقاء علــى طاولة واحدة وتبادل أطــراف الحديــث أو حتى بالنســبة

للراغب في الاسترخاء فقط.

بعد المقهــى قد تقــود خطواتك إلــى أقرب مخبزة، تشتري خبزة وتتأمل الحركة الفاترة بــن العاملــن الذي قــل عددهم من خمســة يســتقبلون الزبائن، إلى ثلاثــة فقط. تلك من انعكاســات فيروس كورونا أيضــاً، الذي دفع صاحب المخبزة إلى تســريح عدد من العاملين لديــه بعــد تراجع رقــم معاملاتــه التجارية وتراجع عدد الزبائن.

وعندما ســألت "القــدس العربــي" كريم، صاحب المخبزة، أكد أنــه كان مضطراً للتخلي عن عمــال يعتبرهم من خيــرة عماله، لكنه لم يكن قادراً على ســداد رواتبهم بعد تدني دخل محله. هو رجل في عقــده الرابع، عامل مخبزة ســابقاً، وتمكن من فتح مخبزتــه الخاصة بعد ســنوات من التجربة، يفيد فــي تصريحه أن الأعمــال كانت ممتــازة، قبــل أن تهب عاصفة جائحة فيروس كورونا. بعدها كل شيء توقف نهائياً، حتــى أن الصفر صار رقمــاً يتكرر في دخله لأيام.

اليوم، يســتطرد، نحن نســتعيد قليلاً من الحيويــة، لكنها غيــر كافية لتدارك خســائر الشــهور الســابقة وتعويضها، لأن الحال لم تعد إلى ســابق عهدها كما كانــت قبل فيروس كورونا.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom