Al-Quds Al-Arabi

حساسيات ورؤى جديدة تثري المشهد الشعري التونسي

شعرنا المعاصر إلى أين؟ )5)

- ٭ كاتب مغربي

■ يمكــن للقــارئ والمتتبــع أن يكتشــف غنــى وتعدد المقترحات الجمالية التي يخلقها الشــعر التونسي في وقتنا الراهن، ما يضعه في مصاف الشــعريات الأهم داخل العالمين العربي والمتوسطي معا. وإذا كانت حركة الطليعة التي قادها شعراء مجددون، من أمثال منصف الوهايبي ومحمد الغزي وغيرهما، قد جددت منذ سبعينيات القرن الماضي في المنظور الجمالي للــذات والعالم، وأحدثت الأثــر العميق في الوعي الشــعري الجديد، فإن الشعراء الجدد منذ تسعينيات القرن نفســه قد ســاهموا بدورهم، نتيجة انفتاحهــم على مدونة الشــعر العالمي، ورهانهم على التعدد والاختلاف وإيمانهم بأخلاقيات الكتابة، في تنويع المتن الشعري وإثرائه بروافد ومرجعيات فنية متباينة، من قصيــدة التفعيلة إلى قصيدة النثر والأشــكال الوجيزة من الشــعر الكثيف مثل الشذرة والومضة والهايكو.

لكن في العقــد الأخير؛ أي منذ اندلاع الثــورة وما رافقها من ســجالات الفضاء العام، أو تلاها من خيبة أمل كبيرة في تحقيق المشروع الوطني المنشود، يمكن أن نلمس في مجاميع هؤلاء الشعراء علائم من مشاعر الحزن والقلق والاغتراب، والشــعور بالســوداو­ية والعبث ولاجدوى الكتابة، كأنهم لســان جيل غاضب من هذا العالم الشــائه، الذي وقف على مشهدياته الموجعة وسحب ســمائه الملبدة بالشك والرماد. بيد أنهم ارتقوا إلى التعبير عن ذلك كُله بالجماليات الُمقاوِمة، وليس بقامــوس البكائيات الأهون، وأبان عدد غير يســير منهم، من خــال اجتهاداتهم واقتراحاته­م النصية، عن مدى وعيهم باشــتراطا­ت اللحظة الحضارية الجديدة، وما تمليه من تحولٍ في الحساسية الجمالية وفي أدائية التعبير الفني، تحت تأثير الفضاء الرقمي ومتطلبات «أزمة الشــعر» التي لا تظهر إلا في المنعطفات الأشد خطورة.

منية عبيدي: ثراء المشهد

تشهد الساحة الشــعرية في تونس تحولاتٍ، تتمثل أهم رهاناتها في تطور تشــكلات القصيدة جماليــا. فبعد الأثر العميق الذي تركته «حركة الطليعة» في ســبعينيات القرن الماضــي، وبعدهــا التجربة التــي اصطلح عليها «شــعراء التســعيني­ات» برز العديد من الأسماء والحركات الشعرية، التي شكلت وجه الكتابة الشــعرية، وأسست لمشهد شعري خصب من خلال الإنتاج الشــعري، أو المســاهمة في إحياء الساحة الثقافية، وتنشيط الملتقيات والندوات الشعرية. من ذلك «حركة نص» التي تراهن على مفهوم «النص» وقصيدة النثر رهانــا عميقا، وقد أثمرت مدونة شــعرية وملاحظات تنظيرية حقيقــة بالنظــر والتأمل والمقارنــ­ة. وقد تناولت هذه التجارب الشــعرية مواضيع متنوعــة منها الاجتماعي والسياســي والعاطفي والمحلي والوطني والعالمي، في قالب إبداعي يبحث عن الصورة المســتحدث­ة والعبــارة الملائمة للمعنى والمبنى.

والناظر في المشــهد الشــعري التونســي يلحظ تطورا واستمرارا لتجارب شعرية امتدت نحوا من نصف قرن، منها ما راهن على الخطاب الصوفي في تجارب عديدة مشــاربها متنوعــة، ومنها ما راهن على قصيدة الواقع بنفس شــعري

يقرّب النص الشعري من اليومي، ومنها ما يستعيد القصيدة العمودية مؤمنا بجدواها وعمــق أثرها في المتلقي، ومنها ما راهن على الشــعر المنجمي وشــعرية الألم، ومنها ما راهن على السرد أساسا من أســس جمالية الشعر وتشكلاته الفنيــة. ولعــل حركة شــعرية نســوية يمكن الإشــارة إليها أسســت لها قراءات نقدية، ســعت إلى ضبط ســمات تميزها وتجلو خصوصيتها. والثابت أن مدونة الشعر المعاصر في تونس اتســعت في منعطف الألفيــة الثالثــة، فتضاعفــت دواوين الشــعر، من حيث غزارة الإنتاج وتعدد أشكال الكتابة، فنحت التجارب الشعرية نحــو قصيدة الومضة والنص الشــعري الوجيز، بما هي كتابة توافق نســق تسارع الحياة. ولا يمكن أن نســهو عن فئة من الشعراء الشبان، الذين بدأوا يشــقون طريقهم بثبات، من خلال نصوص جديرة بالدراســة والنقد، لما تحمله من تجديد على مســتوى الأســلوب والفكرة. فإلى جانب القصائد النثرية التــي هيمنت على الكتابات الشــعرية، نجــد أنواعا أخرى مثل القصائد القصيرة جدا، أو القصائد الومضة والشــذرة، أو حتى الهايكــو هذا النوع الجديد الذي بدأ ينتشــر بصفة تدريجية ويبحث له عن موقع في الســاحة الثقافية، وظهر مدافعون عنه انطلاقا من فهمهــم وتمثلهم للهايكو الياباني، وهو نوع متأثر بتيار شــعري ياباني بدأ يكتســب العالمية، رغم أن بداياته في اليابان كانت منذ القرن الســابع عشــر مع ماتســو باشــو ‪-1644(. )1694‬وقد خلق هذا النوع من الشعر في تونس جدلا حول مشــروعية وجوده، باعتباره اقتراحا إنشــائيا جديدا، وتوجها جماليا مهاجرا من تربته وقع إعادة إنباته في التربة الشــعرية التونســية. اتسمت التجربة الشــعرية في تونــس عموما، بعد الثــورة، أو في فترة ما ســمي بالربيع العربي، بالتنــوع والثراء، نظرا إلى التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادي­ة المهمة، التي جعلت الشــاعر يتأرجح بين المأمول والواقع يأسره المنشود حينا، ويكبله الموجود حينــا آخر. كما أن مناخ الحرية الذي ســاد البلاد دفع الكثير من الشعراء إلى الكتابة في مواضيع كانت واقعة تحت طائلة الرقابة والمنع مــن الكتابة فيها، أو نشــر نصوص كُتبت من قبل لكن لم تُنشــر فظهرت للوجود وســاهمت في إثــراء التجربة الشــعرية التونســية. ومن الثابــت أن انفتاح تونــس على الغرب، مثلهــا في ذلك مثل كل بلدان شــمال افريقيا، إضافة إلى استعداد شعبها لتعلم اللغــات المختلفة، وقدرة أغلــب الأفراد علــى التكلم، وفهم لغتين أجنبيتين على الأقل، هما الفرنسية والإنكليزي­ة، ساهم مســاهمة فعالة في جعل التجربة الشعرية التونسية تجربة متنوعة ومنفتحة على أشكال الكتابة العالمية.

فتحي خليفي: رهانٌ على التعددية

حينمــا التحقنا بكلية الآداب في منوبة في تســعينيات القرن الماضي، كان يسكننا الشــغف بالأدب، والشوق إلى تعميق معارفنا بقوانينه وأســئلته وأجناسه وجمالياته.

ولعل أكثر ما كنا نتوقعه من أســاتذتنا في قســم العربية وقتها، هو أن نجد في دروســهم العامــة والموجهة حيزا ما للأدب التونسي نثره وشــعره. لكن خيبتنا كانت صادمة بعد أن بدأنا نكتشــف، شيئا فشــيئا، أن معظم المسائل التي كانــوا يقترحونها علينا لــم يكن للأعمال الأدبية التونســية منها حظ أو نصيب، رغم كل ما كان يبذلــه محمد القاضي وحمادي صمود وحســن العــوري، والراحلان الطاهــر الهمامي وعبد اللــه صولة من محاولات كانت ترمي إلــى فتح الدرس الجامعي على الأدب التونسي، وتدريبه علــى مصاحبة نمــاذج منــه مصاحبة إصغــاء واستكشــاف ومســاءلة. ومما كان يتــردد على ألســنة بعض أســاتذتنا، اســتطرادا وعَرَضا، أن الأدب أدب بصرف النظر عن جنسية كاتبه، وعن مكان كتابته في إشارة منهم إلى أن «تونسية» الأعمال الأدبية وحدها لا يمكن أن تفرض على «الجامعيين» ومؤسساتهم، الالتفات إليها، وتسليط أضواء النقد والتحليل والنقاش عليها. وهذا معناه أن استبعادهم الشعرَ التونســي من دروسهم ودراســاته­م، لم يكن فعلا اعتباطيا، بقدر ما كان تمشيا واعيا ومقصودا، يجد له في المســوغ الفني قاعدته الأساس وسنده الرئيس، لذلك لم تكن الاســتطرا­دات التي كانــوا ينعطفــون إليها فــي تضاعيف حديثهم عن الأصوات الشعرية العربية المكرسة، كبدر شاكر السياب وأدونيس ونــزار قبانــي ومحمــود درويش، إلا إقرارا دونية الشعر التونسي، وتسليما بافتقــاره إلى ما به يثبــت جدة منجزه وحداثــة خياراتــه الجماليــة، وحركية مســاراته الإبداعية على نحو مــن الأنحاء. لكن الثابت عندنا أن التعامل الأكاديمي مع المشــهد الشــعري التونســي، في العقدين الأخيرين على الأقل، قد تزحزح عن مواقعه «القديمة» وبــدأ يعلن تحرره من قيود جملة من المســلمات النقدية المضللة، كالقول بأن الشــعر التونســي بقي شعر قصائد لا شــعر تجارب، أو القول بأن شعرية أبي القاسم الشابي ســتبقى الشعرية الأعلى التي لن يقدر الشــعراء التونســيو­ن، على اختــاف أجيالهم وتباين رؤاهم وتفاوت مواهبهم، على مجاوزتها والإفلات من ظلالها.

ولعل أبرز ما يمكن أن نصف به منجز الشــعر التونســي المعاصر أنه منجز متنوع تنوعا هائلا، على نحو يصبح معه مجرد التفكيــر في رد كثرته إلى وحــدة مفترضة ما، أو إلى تصنيفات ممكنة ضربا من «اليوتوبيا» الزائفة، أو الاستقراء الناقص في أحســن الأحوال. ومع ذلك كلــه، ليس لنا إلا أن ننبه إلى أن سمة التنوع ليست ســمة خاصة بمنجز الشعر التونســي، أو مقصورة عليه، بل هي سمة مختلف الكتابات الإبداعية المسكونة بهواجس الحداثة وما بعدها، والمحمولة، بالقوة أو بالفعل، على الانخراط في أفق المغامرة والتجريب. والذي يبدو لنا في هذا الباب هو أن التعدد الذي يسم الشعر التونسي المعاصر في أكثر من مستوى، أبان عن مداومة عدد من الشــعراء الحاذقين على تعهد كتاباتهم الشعرية، تصورا وممارســة، بالمراجعــ­ة والتطوير والعدول والاســتئن­اف، مداومة أغنت نتاجهم الشــعري وجعلتهم أصحاب مشاريع شعرية حقيقية يعزز لاحقها سابقها أو يباينه. وحسبنا هنا أن نذكر، على ســبيل المثال لا الحصر، تجارب كل من منصف الوهايبي ومحمد الغزي وفتحي النصري ونصر سامي.

ومما يلفت النظر في المشهد الشعري التونسي، فضلا عما سبق، أنه مشــهد زين لكثيرين منه اتخاذ قصيدة النثر أفق كتابة يرومون به توســيع ممكنات الشعر، واختبار مسالك أخرى في قولــه. لكن قلة منهم اســتطاعوا، في تقديرنا، أن يبلغوا ســقف ذلك المــرام، بفضل وعيهم النظــري العميق بصعاب قصيدة النثر أولا، وما أظهروه من قدرة على إخضاع مختلف مكونــات نصوصهم وروافدهــا لمقتضيات الوظيفة الشــعرية في مفهومها العــام لا مفهومها «الجاكبســو­ني» الضيــق. ويمكننــا، هنا، أن نســتحضر، تمثيــا لا حصرا، إسهامات باسط بن حســن وعبد الفتاح بن حمودة وأمامة الزاير في هذا الباب. لا شــك في أن متابعة الشعر التونسي المتابعة النقدية الجادة والرصينة هي وحدها الكفيلة بتمثله في تعدده واختلافه وتحوله.

أشرف القرقني: نزعة التجريب

إن الخوض في الشــعر التونسي بين الحداثة والمعاصرة يعود بي رأســا إلى لحظة تأسيســية حملت عنوان «حركة الطليعة» التي تأسســت سنة 1968. لقد مثلت هــذه الحركة استشــكالا لقضايا الشعر والفكر وموضع مساءلة ضرورية في ســياقها التاريخي. لكنها أقلعت إجمالا بجنــاح النقد، فقد فشــلت في تقــديم مدونة إبداعيــة مهمة وقيّمة أو بعبــارة أخرى مدونة تظل حديثة حتى راهننا هــذا. كما أنها، مثلهــا مثل كل الحركات الطلائعيــ­ة، انتهت، بشــكل طبيعي في حُكــم التاريخ، إلى مصــادرة هذه الطلائعية لتفضي المجال إلى ما ســمي بجيل الثمانينيـ­ـات والتســعين­يات. وفي تجــارب أبناء هذا الجيل تفرق الشــعراء بين من يرى رهانه مقتصرا على قصيــدة التفعيلة، وثلة قليلة جدا ممن أســس لمشــروعه الشعري في جنــس قصيــدة النثــر. وأبــرز هؤلاء يوســف خديم الله وعبد الباســط بن حســن والمنصف الخلادي وعبد الفتاح بن حمودة وميــاد فايزة وفتحي قمري ورضا العبيدي. أما عبد الفتاح، فســوف يلعب لاحقــا دورا مهما ومميــزا في تقديم تجربة شــعراء الألفيــة الثالثــة )أو الحركة الشعرية الجديدة وفق تسميته الخاصة( للقراء في تونس وفي العالم العربي.

لقد مثل لقاءُ الثورة الفنية التي يسعى هؤلاء الشباب إلى تحقيقها من خلال خيار قصيدة النثــر والثورة التي انطلق

في تحقيقها الشعب التونسي مع نهاية سنة 2010 إلى تطابق تاريخي مخصوص. والجميل في هــذا التطابق أنه متناغم مع حقيقة الشــعر فــي تصوري، إذ لا وجود للشــكل خارج المعنى والذات، أو في انفصال عنهما. إن حاجة الشــاعر إلى خلق تجربتــه المتفردة تنشــئ تطورا في الشــكل/المعنى. ولذلك ظهرت مع هؤلاء الشــباب ديناميكا جديدة في المشهد التونســي. أســس عبد الفتاح بن حمودة مع مجموعة من الشعراء )صلاح بن عياد، أمامة الزاير، خالد الهداجي، نزار الحميدي، عبد الواحد السويح، السيد التوي( - ومعظمهم من كتاب قصيدة النثر حركة شــعرية سُــميت بحركة نص. والطريف أن هذه الحركة استوعبت في الكتب التي نشرتها قصائد الشــباب الذين رأت فيهم تمثيلا للأفق الذي يعنيها، حتى لو يكن هؤلاء الشــباب من المنخرطين فيها رسميا. ولم تســتمر هذه الحركة لفترة طويلة. لكنها مثلت إحدى وجوه الديناميكا المتحدث عنها سلفا.

وإجمالا، يمكنُ القول إن الشــعر التونسي المعاصر عرف نزوعا إلــى التجريب والتحديــث. فانتهى بعــد عقود من الكتابــة والتنظير والنقــد والمحاولة في شــتى الاتجاهات إلى انتخاب وجهين من وجهي الحداثة الشــعرية )من حيث الشكل الشعري( وهما كما ذكرتُ قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر أساسا. وهذا الانتخاب هو محصل علاقات معقدة تصل الشــعراء وفكرهم بمجتمعهم وما يتخلقُ فيه. وهو يكســر أيضا «أسطورة» طالما راجت. وهي أن المغرب العربي موطن نقد أما المشرق فموطن شعر وإبداع.

لقــد أتاحت الثورة التونســية وانفتاح الإنترنت التي كانت مغلقة في نظام بن علي المجــالَ للانتباه إلى التجارب التونســية الشــابة والمختلفة. كمــا رفدت هــذه التجارب بدورها بما يكتب في العالــم العربي والآداب الأخرى خارج القنوات الرســمية التي كانت تمر بمســالك النظام القديم. إنني أتحدث عن جيل صار مطلعا بشــكل دقيق ومفصل على تجارب قصيدة النثر في المغرب وحركــة كركوك وما بعدها في العــراق، والجيل الثاني من كتاب قصيدة النثر في لبنان )وديع سعادة وبسام حجار مثلا( وما إلى ذلك. كل هذه التجارب مثلت روافد مهمة لشــعراء الألفيــة الثالثة. وأعتقــد أن مــا تكتبه أهم أصواتــه اليوم يمثل أفقا مهما في الشــعر العربي الحديث إلى جانب أصوات فريدة أخرى «عابرة للأجيال» يُشهد لها بكونها ظلت تتجدد فنيــا وفكريا علــى امتداد عقود طويلة مثل المنصف الوهايبي وآدم فتحي وفتحي النصري ويوســف رزوقة. ويمكن لهــؤلاء أن يثروا مدونتي الشــعر والنقد في المغرب والمشرق العربيين والعالم. وتلك مسألة يتصل فيها سياسي الأدب بسياسات كثيرة من خارجه.

 ??  ?? منية عبيدي
منية عبيدي
 ??  ?? فتحي خليفي
فتحي خليفي
 ??  ?? أشرف القرقني
أشرف القرقني
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom