Al-Quds Al-Arabi

صاحب تاريخ الفلسفة الإسلامية ومُترجم القرآن

- أديب صعب * ٭ كاتب لبناني

عــن 98 عاماً رحل قبــل أيام، ماجد فخــري )6 كانــون الثاني/ينايــر 1923 ـ 4 آذار/مــارس 2021( مــؤرخ الفلســفة الإسلامية والمؤلف الغزير في عدة حقول فلســفية، والمفكــر النهضوي والأُســتاذ الجامعي اللامع.

سيرة

بعــد دراســته فــي جامعــة أدنبــره الأســكتلن­دية علــى يــد الباحــث الكبيــر مونتغومــر­ي واط وحصولــه علــى الدكتوراه في الفلســفة الإســامية، علّمَ فترة وجيزة في جامعة لندن قبل انتقاله إلــى الجامعــة الأمريكيــ­ة فــي بيــروت، حيث ترأس دائرة الفلســفة مراراً ودرّس مواضيع كثيرة، أبرزها فلســفة أرســطو وفلســفة ابــن رشــد وتاريــخ الفلســفة الإسلامية.

خلال حيــاة غنيــة بالإنتــاج الفكري، ألّف فخري كتباً ودراســات كثيرة. وإلى تأليفــه باللغــة الإنكليزيـ­ـة، حرص علــى التأليــف بالعربية، مع دقة وعمــق وبلاغة ووضوح في اللغتين.

بــن أعماله كتب عن علــم الكلام وابن رشــد والفكــر الأخلاقــي في الإســام. ويبقى عمله الأكثر انتشــاراً حول العالم «تاريخ الفلسفة الإسلامية» الذي أَوكلَت إليه جامعة كولومبيا في نيويورك تأليفه، وصــدر في طبعته الأُولى عام 1970 تلتها طبعــات كثيــرة، وترجمــات إلــى ثماني لغــات. كمــا أَنجــز ترجمــةً للقــرآن بلغة إنكليزية عصرية، صدرت عن دار بنغوين البريطانية. من كتبه بالعربية: «دراسات في الفكر العربي» «ابن رشــد فيلســوف قرطبــة» «أرســطوطال­يس المعلّــم الأول» «أبعــاد التجربــة الفلســفية» «الحركات الفكريــة وروّادهــا اللبنانيــ­ون في عصر النهضة» «تاريخ الفلســفة اليونانية» مع عدد كبير من الدراســات الإســامية في مجلات مختصة حول العالم.

كمــا درّس ماجــد فخــري فــي عــدد مــن الجامعــات الغربيــة، منهــا جامعــة كاليفورنيـ­ـا )لــوس أنجِلِــس( وجامعــة برنســتون وجامعــة جورجتــاون فــي

من مؤلفات الراحل

واشــنطن، حيــث أقــام ســنوات بعــد مغادرتــه بيروت أواســط التســعيني­ات لينضم إلى عائلته. ومن واشــنطن انتقل إلى ولاية فرجينيا، حيث توفّي في الرابع من الشهر الحالي.

عرفــتُ ماجــد فخــري عــن كثــب، إذ كنــت طالباً لديه فــي الجامعة الأمريكية، ثم زميلاً لفتــرة قصيرة قبــل ذهابي إلى لنــدن. وبقينا علــى اتصال بعــد عودتي وتدريســي الفلســفة في معهــد القديس يوحنــا الدمشــقي اللاهوتــي الجامعي، الــذي كان نواة جامعــة البلمند. ودعوتُه لإلقــاء محاضــرة هنــاك قبــل أواســط التســعيني­ات يــوم غــادر إلــى الولايــات المتحــدة ليمكــث بقيــة حياتــه مدرّســاً ومحاضــراً ومؤلفاً. وجَمَعَنا لقاء وداعي في مكتبه في الجامعة، وهو على وشــك إخلائه، فأهدى إليّ عدداً من مؤلفاته.

مساهمته في مجلة «الأزمنة»

قبــل ذلــك كنــتُ علــى صلــة بفخري إذ دعوتُــه للكتابــة فــي مجلــة «الأزمنة» الثقافية المخصصة للإنســاني­ات والفكر والإبداع الأدبي. وقد رسمتُ خطة المجلة ورأستُ تحريرها طــوال صدورهــا مــن باريــس فــي النصــف الثانــي مــن الثمانينيـ­ـات. وتحمــس لقضيــة المجلــة، وهــي «النهضــة العربيــة المنشــودة» وســاهم فيهــا منــذ العــدد الأول، فنشــر فصــاً عن دور اللبنانيين في صنع النهضة العربية، أتبعه بفصــلٍ ثانٍ، من بحــث كان يعمــل عليه قبل أن ينشــره كتاباً. وممــا كتبه للمجلة شــهادة عــن شــارل مالــك الفيلســوف. وكشــفَت «الأزمنة» عن وجه غير مألوف لفخــري، هو وجــه أدبــي إبداعــي، بعد الوجه النقدي، الذي تجلّــى تنظيراً أدبياً فلسفياً في مجلة «شعر» وسواها.

الرائي

أما الوجه الإبداعي فتجلّى يوم أَرسل إليّ قطعة وجدانية تأملية بعنوان «المرآة والأشــباح» نُشِــرَت في العدد الخامس من «الأزمنة» بتاريــخ تموز/ يوليو ـ آب/ أُغسطس 1987 تدور على «راءٍ» أو «نبيّ» وقف «ينادي القــرون الخوالي، مخاطباً الحاضــر والمســتقب­ل» بهــدف إحــداث لقــاء أو مصالحة بــن حضارتَي أوروبا وآسيا:

«فلمّــا رســت ســفينته عند شــواطئ البحــر الــذي يفصل بــن قــارة الغروب وقارة الشــروق، أخذ يتأمــل في الجبال المرتفعــة علــى جانبَــي البحــر، وكأنهــا تــودّ أن تتصافح، علــى الرغم مما يفصل بينهــا من لجج عميقة وأبعاد ســحيقة... على هذه الشــواطئ تفتقَــت براعم الفكر والإدراك، وتحــررَت الأذهان من عبودية الأساطير. هنا اكتشــف الإنسان حقيقة الكون ورابطة الأُخوة التي تشده إلى كل ما هو موجود. وسَواء وَسَمَ تلك الحقيقة بالماء أو الهواء أو النار، فقد أراد من وراء ذلك النفاذ إلى ما تخفيه ظواهر الأشــياء واســتجلاء حقيقتهــا الباطنــة. وما لبث أن تبــن ما هــو أعظم مــن المــاء والهواء والنار، فاكتشــف حقيقة ذاته وأَدرك أن الكــون، بأبعــاده اللامتناهي­ــة ومجرّاته التي لا حصر لها، إنمــا هو انعكاس لتلك الــذات». ويتابــع: «أعظــم مــن الرســوم والأشــباح المنعكســة في المرآة هي المرآة التــي تعكس تلــك الرســوم والأشــباح. وأعظــم مــن البحــار والجبــال والفِجاج

هــي الباصــرة التــي تطيــف بــكل بعيد وقريــب، وكل كبير وصغير، بل أعظم من الباصرة هي البصيــرة، التي تدرك أبعاد الزمان الســحيقة وخفايا الكون النائية، وتَنفــذ إلــى قــرارة الســرائر والضمائر والأذهــان ». ويختتــم قطعتــه الوجدانية بهذا الكلام: «على مَن أراد أن يلمّ بأحكام الخير والشــر والجمال والقبح، ويفصل بينهــا فصلاً باتّاً، أن ينفصل أولاً عن هذا العالم الحاصل، ويلحــق بعالم الممكنات الخــارج عنــه والزاخــر بكل ما تشــتهيه الأنفــس وتصبــو إليــه الجــوارح. فذلك العالم هو مستودع الأماني وكنز الوعود والأســرار، ومحوَر تَوَقــان النفس الدائم إلى ما لا نهاية له.»

واضحٌ مــن هــذه الكتابة أنهــا تنتمي إلــى الوجدانيــ­ات التأمليــة، علــى غــرار «النبي» لجبــران خليل جبران، و»مرداد» لميخائيل نعيمة و »كتاب عبد الله » لأنطون غطاس كرم و »لو حكيتُ مسرى الطفولة » للمطــران جــورج خضــر. وقصــدي من التركيز على هذا المقطــع إبراز جانب غير معروف مــن اهتمامات فقيدنــا الفكرية. وإذ أشــك في أن يكون فخري نشر جزءاً آخر مــن هذا العمــل، كمــا لا أدري ما إذا أكملــه كمخطوط غيــر منشــور، غير أني أتمنى أن تتولــى ابنته ريما، نشــر ما هو ناجــز منه، إضافةً إلى مــا تقع يدها عليه من أعماله المخطوطة أو غير المنشورة في كتاب.

برحيل ماجد يبقــى للفكر العربي إرث أكاديمي ضخم، نأمــل أن يكون نموذجاً يُحتَذى وقدوةً للأجيال.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom