Al-Quds Al-Arabi

عتبات القول والكلام

- ٭ كاتب مغربي

كما الشــعر كما النثر، من جديد، مســاحات شاســعة من القول والكلام، واللغة حصان جموح، وصهوتها جــذوة من نــار لا ينطفــئ أوارها. عند الحديث عن الإبداع النثري فــي المغرب خصوصا، نستحضر تجارب من مختلف الأجيال التي بصمت المشــهد الثقافي المغربي ببصمات لا تمحي مع مرور الزمــن. ففي جيــل الســتينيا­ت، من عمــر القصة القصيرة، بــدأ التجريب يبحث عن مســكن قطني آمن، فاختلفت على القصة المغربية ألوان من تجاربَ واقعية تارة، ووجودية ووجدانية تارة أخرى.

ومع الســبعيني­ات بدأت رقعــة القصة القصيرة تتجاذبها أطراف كثر، ســئموا كل شــيء وعشقوا الحكي وحلاوته ولذته. ففي هــذا كله ثمة منعطف خطير في تاريخ القصة المغربية، مع ظهور إبداعات محمد زفزاف وأحمد بوزفور عميد القصة القصيرة فــي المغرب؛ من خلال «بيوت واطئــة » و»النظر في الوجه العزيز». ولن ننســى ما حققــه نهر الحكي النســائي الجارف أيضا في السبعينيات، مع خناثة بنونة في مجموعتهــا «الصورة والصــوت» التي كانت تلهج بإدانة الواقع الذكوري، الذي ساهم في تهميش دور المرأة الطليعي وقتئذ.

وبظهور قاصات مغربيات شــابات وأنيقات في مطلع التســعيني­ات، كرجاء الطالبي في «شــموس الهاويــة ». ومليكة الصوطي فــي «جراحات امرأة » على ســبيل وقع الــكلام لا الحصر، بــدأت القصة القصيــرة المغربية، معهن، تطأ أرضــا وضفافا غير مألوفة؛ أرضا معتمة وقاتمة، بما هو إبداع بدأ يزحف على ما يســمى بمملكــة التابو. فاقتحمــت القصة القصيرة المغربية بحور الهذيان الجســدي، بما هو مــكان المدينة المحرمة، يســكنه عشــق الإمبراطور فقط. ولا يمكن الســكوت أو تجاوز ما فعلته ربيعة

ريحان، بداية التسعينيات، بالحكي في مشارف التيه، بما هو مكان نطل منه على سمفونيات الجسد العائم، الــذي يتحدى كل أعــراف مجتمع محافظ، أسوة بما فعلته القاصة الكويتية ليلى العثمان.

تاريخ الحكي هو تاريــخ الألم والحزن والمعاناة عبر عصور الإبداع. معانــاة مع واقع جموح لا يفهم معنى الإبداع لا يفهم معنى الحياة. تقذف في القاص أو الروائي شــحنات شــيطانية فيهيم في الأرض، كما هــام آدم في الجنة، فكشــف الله عن ســوأته. ويكشــف القاص والروائي، هو أيضــا بدوره، عن عورة مجتمع لا يؤمن بمعنى الخلق؛ يحمل مسودات ولادته القيصرية، ويدور على مقاطعات لتســجيل هذا المولود الشرعي المرفوض مسبقا.

لأننا لا نريد فصيلتك؟

يجــدد الرفض معاني الإبــداع، ولولا وجود «لا الرافضــة» مــا دارت عجلة الإنســاني­ة منذ الخلق، فالتمســك بالإبــداع دعــوة صريحة إلــى معانقة تاريخانية الســرد في الأدب العربي وغير العربي. بمعنــى أن للنقــد يدا طولــى في البحــث عن هذه المنعطفات التي تشــكل منها الوعي بالحكي، مادام هذا الأخير احترفه الإنسان منذ القدم.

هل من حق النقــد أن يتجاوز دور الصيرفي؟ هل من وازع جديد يســتحدث في النقــد من أجل خلق طفــرة نوعية في تلقي الأدب؟ لماذا الكاتب الجيد هو الكاتب الذي يخنق حرية المتلقي أو القارئ؟ ويدفعه نحو الابتــاع المجاني للمنتوج الأدبي. لما لا نتجاوز هذه الثقافــة المخاتلة؟ ونستشــرف بالقصة نحو ضفاف آمنة متجاوزين بها منطق الوصف والتعبير عن الحدث، الذي يريده الكاتب الجيد.

هل فعــا يكون الكاتب الجيد خدوما للتسلســل المنطقي داخل السرد؟ هل السيرورة الزمنية تخيط مســاحات شاســعة من الحكي ؟ هــل بإمكانها أن تخلق، لنا، قارئا عالما؟ فالقارئ العالم، إذن، مشروع طموح؛ لأمــة تطمح أن تضــع القطار على ســكته الصحيحة.

فالسيرورة الزمنية التي تخيط القصة القصيرة كنمــوذج، قادرة على أن تخلق مــن القارئ العادي قارئا عالما. فالتسلسل الزمني، الذي يتغياه الكاتب الجيد، ســيصبح منفتحا على الخلخلة والدوران. ومن ثم سيصبح الإبداع ينشد الحرية لكل من أسره حكيــه. وهي دعــوة صريحة إلى تفكيــك مكونات اللعبة الســردية، من أجل إعــادة بنائها من جديد، فيصبح التسلسل الزمني غير خاضع للأسر الخطي لعملية الإبداع. إذن لابد أن يأتي يوم ينفض القارئ الغبار عن عينيــه؛ ليبصر كنه الأشــياء. ولا يبيع الأوهام المجانية. فالســيرور­ة الزمنية ذلك السدى الذي يخيــط لحمة الإبداع صعــودا ونزولا، تنبني على مؤشــرات تجعل مــن القارئ عالمــا. لا يهادن الثقافة غير مستلب وراء القصة أو الرواية المصورة، بما هي سهلة للابتلاع. وفيها ـ أي السيرورة الزمنية ـ قراءة معكوسة، ناقدة، وأخيرا عالمة.

في الحكي عموما والقصة القصيرة نموذجا، كان الكاتــب يضع ســمتا واضحا لحكيــه، بمعنى أنه لا يزيغ قيد أنملة عن منطق الســرد، الذي هو موضوع الحكاية. وانطلاقا من دراسة البنيات وخلخلة ركائز الأحــداث، نتمكن بفعــل التسلســل الزمني للحكي الانفلات من عقال وأصفاد الكاتب، التي يضعها أمام القارئ موجها أفق انتظاره. فعند الحديث عن المثقف العضوي الغرامشي، مثلا، الذي يغير من وجه الواقع الموبوء، نلاحظ أن هذا الحلــم قد اجتاح كل المثقفين في المغرب في السبعينيات من القرن الماضي، وعلى ضوئه أبدع الكتــاب المغاربة مجموعة من الإبداعات تســير وفق أفق انتظار واحدة ؛ سواء على مستوى القصة القصيرة «أوصال الشجر المقطوعة» لمحمد عز الدين التازي، أو على مستوى الرواية «المعلم علي» أو حتى على مستوى المســرح «ابن الرومي في مدن الصفيح» لعبد الكريم برشــيد. فالطرح الغرامشــي أسر رؤية الكتاب المغاربة؛ فكان التوجه نحو التغير موجــة ركبهــا الأدب بمختلف أجناســه الإبداعية. وبهذا، فالســيرور­ة الزمنية التي يركبها المبدع، بما هي تفرض التوجــه الأحادي من الجنس الأدبي إلى خلخلة الثوابت؛ تفرض علــى الإبداع أن يطل علينا من مناطق مظلمة من نفســية الإنسان؛ ويغدو حلما منفلتا من أســر الواقع، أو قد يخرج على شكل دفقة شــعورية لاإرادية، متخلصا من قواعد تكسر البناء ومنسجما مع ما يفرضه المنطق والواقع.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom